الخميس، 19 مايو 2011

ما بعد الإنسانية Transhumanism - الحلقة الأولى





" إلى أين تمضي يا جلجامش؟  الحياة التي تبحث عنها لن تجدها.  فالآلهة لما خلقت البشر، جعلت الموت لهم نصيباً،  وحبست في أيديها الحياة ". 
(ملحمة جلجامش ), اللوح العاشر: العمود الثالث (كسرة الرمز Me)


"إن كانت هناك آلهة ، فكيف  أطيق ألا أكون إلها ؟"
(عدوّ المسيح) ، فريدريك نيتشه 


دعونا بداية نفتح كتب الفيزياء  لنعود الى الوراء 13.7 مليار عام و نبحر فى الزمن حتى نصل  الى مابعد لحظة  الانفجار العظيم  بقليل حيث تخبرنا نظريات الفيزياء الكمومية الحديثة أن (الزمان-المكان space-time ) كان عبارة عن كمات متقطعة و بصورة أساسية شظايا معلومات ، ثم لننتقل  الى بضعة مئات الألاف من السنين بعدها سنجد أن الذرات بدأت فى التكون عندما انحبست الالكترونات فى مدارات حول نواة مكونة من بروتونات و نيترونات ،لتولد الكيمياء بعد بضعة ملايين من السنين عندما اتحدت الذرات مع بعضها البعض لتكون مركبات مستقرة نسبيا تدعى بالجزيئات .و من كل العناصر أثبت الكربون أنه الأكثر تنوعا  فهو قادر على تكوين روابط فى أربع اتجاهات (مقارنة بواحد الى ثلاثة بالنسبة لمعظم العناصر ) مما أعطى الفرصة لظهور الجزيئات ثلاثية الأبعاد و معقدة التركيب الغنية بالمعلومات .


ثم لنقفز مليارات السنين الى الأمام و بالتحديد من حوالى 3.8 مليار عام لنجد أن المركبات الكربونية تصبح أكثر تعقيدا لتتكون آليات قادرة على النسخ الذاتى من مجموعات معقدة من الجزيئات ،و بذلك بدأت الحياة على كوكب الأرض .فى النهاية الأنظمة البيولوجية طورت آلية رقمية دقيقة  (الحمض النووى DNA) لتتمكن من تخزين المعلومات التى تصف مجتمع أكبر من الجزيئات ،وليكون الحمض النووى و الآلة المساعدة له من كودونات و ريبوسومات المفتاح الرئيسى فى عملية تطور الحياة على كوكب الأرض بل و ليحتفظوا بسجل كامل لهذه الحقبة .


المسرحية الكونية تدخل الأن مرحلة جديدة  فالتطور أنتج كائنات يمكنها تحديد المعلومات بواسطة أجهزة الحس الخاصة بها و لتخزن المعلومات التى تحصل عليها فى أدمغتها و أنظمتها العصبية و تلك المرحلة بدأت بقدرة الحيوانات البدائية على تمييز و تذكر بعض آليات و ظواهر الطبيعة المهمة لبقاءها أو التى تعرضت لها لفترة طويلة زمنيا (و هى بالمناسبة مازالت حتى الأن تشكل الأغلبية العظمى من تكوين و نشاط الدماغ البشرى) ، فى النهاية  تمكن  جنسنا البشرى من تطوير القدرة على خلق نماذج مجردة عقلية تماما عن العالم الذى نعيش فيه و نختبره كل يوم و التفكير  فى التطبيقات العقلية لهذه النماذج .فنحن نمتلك القدرة على اعادة تصميم العالم فى عقولنا و من ثم وضع تلك الأفكار فى حيز التنفيذ .




و بهذا تصل الدراما الى ذروتها فبواسطة اعمال التفكير العقلانى و المجرد تمكن الجنس البشرى من ابداع التكنولوجيا من العجلة الى الطباعة و بعد الثورة الصناعية و العلمية الحديثة تسارع معدل التقدم التقنى بشكل ملحوظ فاخترعنا  الكهرباء و الطائرة و السيارة و الراديو و التلفاز .....الخ ،و قد بدأنا بآليات بسيطة للغاية لنطورها الى ألات ميكانيكية معقدة يستطيع أفراد متخصصون فقط من الجنس البشرى التعامل معها ، و قد وصلنا لحد   أن التكنولوجيا الآن بواسطة أجهزة الاتصال و الحاسبات المتطورة تستطيع استشعار و تخزين و تقييم تفاصيل دقيقة جدا من المعلومات التى تحصل عليها ،فاذا تمت المقارنة بين  معدل تطور  التقدم البيولوجى  للذكاء و مثيله الخاص بالتطور التكنولوجى سنجد أن أكثر الثدييات تطورا تمكنت من اضافة 1 انش (2.54 سم ) مكعب  من مادة الدماغ كل مائة ألف عام  بينما تقريبا تتضاعف قدرة الحاسبات كل 18 شهر (قانون مور). بالتأكيد ليس حجم المخ أو سعة الحاسب الآلى هما المحدد الوحيد للذكاء و لكن بلا شك يمثلان عوامل مساعدة .


اذا نظرنا الأن مليار عام الى الوراء سنجد أنه لم يحدث الكثير حتى على مقياس المليون عام ،و لكن اذا نظرنا الى الوراء عشرين عاما فقط سنجد العديد من التغييرات الجذرية
(هل تتصور حياتك من غير التليفون المحمول و الانترنت مثلا ؟؟ هذا الاختراعان لم ينتشرا بشكل مكثف سوى فى حقبة التسعينات من القرن الماضى ، هل تتصور  أنه قبل العام 1994 لم يسمع أحد باختراع اسمه الايميل ؟)


تسارع التقدم التكنولوجى و العلمى الذى تعيشه البشرية الأن غير مسبوق على الاطلاق و قد حدثت تغييرات جذرية للطريقة التى نحيا بها بسببه ،و لكن من الغريب أنه طال كل شىء ماعدا الانسان ذاته فالطبيعة البشرية مازالت فى الجانب الأكبر منها  كما هى منذ 150.000 عام ،الجنس البشرى بشكل عام يحمل عيوب خطيرة جدا فى تكوينه الجسمانى و  آلياته العقلية فنحن حصيلة 3.8 مليار عام من التطور و هى عملية لم تكن موجهة بل كانت عمياء و بلا ارادة فوقية .


الجنس البشرى يحتاج ظروف خاصة جدا للبقاء فهو لا يستطيع مثلا المعيشة فى درجات حرارة مرتفعة جدا (أو منخفضة جدا) و لو افترضنا حدوث كارثة على كوكب الأرض يوما ما فهو لا يمتلك التقنية  ليستطيع الهرب الى كواكب أخرى و لو امتلكها فهو لا يستطيع الحياة على كواكب أخرى مختلفة فى غلافها الجوى و جاذبيتها  و غيرها من العوامل الواجبة لاستمرار الحياة البشرية ، بل ان حوالى 79 % من مساحة كوكبنا غير مسكونة على الاطلاق لأن الانسان لا يستطيع العيش فى المحيطات و البحار ( و أكثر من هذه النسبة ان أضفنا الصحارى و الأدغال ...الخ ) ، كل أفراد الجنس البشرى محتم عليهم توقف عملياتهم البيولوجية (الموت ) فى لحظة ما .نحن كلما ازدادت معرفتنا عن الكون تزايدت ثقتنا بأننا نعيش فى كون عدائى للغاية ،بأننا الاستثناء و ليس القاعدة ،بأننا نعيش على هامش الكون و لسنا محوره كما تزعم الأديان و الفلسفات الميتافيزيقية .




و هنا تظهر فلسفة (مابعد الانسانية ) لتخبرنا بأن الحل للمشاكل التى تواجه الجنس البشرى  بكل تأكيد  لن يكون باعتناق الأفكار الأسطورية عن أصل الكون و الدعاء لكائن خرافى يعيش فى السماء كما أقنعت الأديان أتباعها طوال ألاف السنين الماضية ،و لن تكون باعتناق أفكار علمانية مثالية أخرى لا تختلف كثيرا عن الأديان من حيث أنها لا تستند الى أى أسس علمية أو منطقية .و لكن الحل يتلخص تحديدا فى استخدام العلم و التكنولوجيا الحديثة لتطوير قدرات الانسان و رفعه الى مراتب الآلهة .


لعل تاريخ هذه الفلسفة يمكن تتبعه طوال تاريخ البشرية المدون فنجد مثلا جلجامش ملك أورك و رحلته بحثا عن الخلود فى الملحمة الشهيرة ،و أيضا فى القصص و الأساطير التى تتحدث عن اكسير الشباب حيث تبدو  تيمة محاربة  الموت و البحث عن الخلود  واضحة فيها الى أقصى حد.ثم نجد نيتشه أحد أعظم الفلاسفة و حلمه بالانسان السوبرمان لكن لم تتبلور هذه الفلسفة فعليا الا بعد داروين .






ان أهمية داروين لا تتمثل فقط فى أنه تمكن من  حل أحد أهم الألغاز التى واجهت الجنس البشرى و كشفت النقاب عن ماضيه ،بل أنه فتح الطريق الى المستقبل أمامنا فى نفس الوقت .فقبل داروين كان ينظر الى الخصائص الحالية للبشر  باعتبارها المرحلة النهائية لما يمكن أن يصله الجنس البشرى (على اعتبار أنه مخلوق على صورة الاله و أن الاله قد خلقه فى أحسن تقويم ) بينما بعد داروين أصبح من الممكن النظر الى البشر باعتبارهم مرحلة تطورية أخرى قد تفضى الى مراحل تطورية أرقى بمئات المرات من الجنس البشرى الحالى .




*يرمز عادة لمصطلح ما بعد الانسانية فى اللغة الانجليزية بالرمز +H كرمز للانسان المطور، و رغم أن أول استخدام للكلمة يرجع الى العام 1957 ،فالمعنى الحالى للكلمة هو نتاج الثمانينات من القرن الماضى عندما بدأ خبراء المستقبليات فى الولايات المتحدة فى تنظيم ما نما بعد ذلك ليصبح حركة ( ما بعد الانسانية ) .
الحركة باختصار هى حركة فكرية و ثقافية دولية تدعم استخدام العلم و التكنولوجيا لتطوير خصائص و قدرات الانسان العقلية و البدنية ،فهى تعتبر بعض نواحى الحياة البشرية كالاعاقة و المرض و الموت و الشيخوخة كأشياء غير ضرورية و غير مرغوب فيها ،فمؤيدو الحركة ينظرون الى التكنولوجيا الحديثة و بخاصة التكنولوجيا الحيوية و الهندسة الجينية و الذكاء الاصطناعى باعتبارها الأدوات التى ستمكنهم من تحقيق أهدافهم .


منظروا الحركة يتوقعون بأن البشر قد يتمكنوا فى المستقبل من تحويل أنفسهم الى كائنات حية ذات قدرات فائقة و خارقة للطبيعى لدرجة أنهم لن يعودوا بشرا بالمعنى المفهوم بل ( مابعد الانسان) .




تجدر هنا الاشارة الى ملحوظتين :


أولا معظم المنظرين لحركة (ما بعد الانسانية ) هم علماء غالبا و ليسوا سياسيين أو فلاسفة ، فكبار المنظرين لهذه الحركة هم مثلا مارفن مينسكى (أحد المؤسسين لمعمل الذكاء الاصطناعى فى معهد ماساشوستس للتكنولوجيا و هو أهم معاهد و كليات العالم على الاطلاق فيما يتعلق بالتكنولوجيا و العلوم، و لعله الخبير رقم واحد على مستوى العالم فيما يتعلق بالذكاء الاصطناعى  ) و هانز مورافيك (و هو الأخر متخصص بالذكاء الاصطناعى و الروبوتات ) و رايموند كورزويل ( مخترع شهير و متخصص بعلوم الذكاء الاصطناعى و علم المستقبليات ) 


و لعل سيكون من الغريب أن أذكر الاسم الرابع و لكنه رمز مهم جدا رغم أنه لم يقم باصدار كتب عن الحركة  كما فعل الثلاثة الأخرون و هو العالم العبقرى (جيمس واطسون ) مكتشف تركيب الحمض النووى DNA  مع زميله (فرانسيس كريك ) و مؤسس علم الجينات الفعلى و أحد الداعين لاعادة تصميم الجسد البشرى .
ففى كلمة شهيرة له  أمام مؤتمر UCLA عن علم الجينات و مستقبل الهندسة الوراثية رفض رفضا قاطعا أى تدخل حكومى أو تشريعى خلاف المعايير العلمية  فى مجال الهندسة الجينية بل و تمادى و هو المعروف بصراحته  و  لا يمتاز باللباقة السياسية political correctness  على الاطلاق ليقول أن الكلام عن حقوق الانسان و حقوق المرأة و حقوق الطفل و حقوق الحيوانات ....الخ سخف و هراء ،و أنه لا توجد قدسية أو حقوق مزعومة لحياة الانسان و أن النزعة الصوفية لوضع الانسان فى مكان أعلى من وضعه الطبيعى تليق بأفلام هوليوود و ليس بالعالم الحقيقى .






ثانيا تظل هذه الحركة -رغم أنها اقتصرت حتى الأن على التنظير الفكرى باصدار الكتب أو الأفلام الوثائقية و اجراء بعض المؤتمرات  النقاشية و لم تدخل حيز التنفيذ الفعلى لأننا لا نمتلك التكنولوجيا الملائمة بعد - محل جدل شديد و معارضة هائلة ،فبالطبع أى متدين على وجه الأرض لن يستطيع النظر الى مثل هذه الحركة الفكرية الا باعتبارها هرطقة لا حدود لها فهى تنافس الهه أو آلهته بشكل مباشر فى اختصاصات لطالما ظلت فى نطاق الألوهية فقط كتحقيق الخلود .....الخ  .


 و بالنسبة لليسار بمعظم أطيافه تظهر هذه الحركة و التى تعمل من خلال العلم و التكنولوجيا و ليس من خلال تغيير المؤسسات و القوى الاجتماعية كأنها ستعمل على زيادة الفوارق بين الطبقات و البشر بشكل لا مثيل له من قبل فبالطبع لن تتاح الفرصة الكافية الا لعدد محدود من البشر للتمتع بهذه التقنيات ان أثبتت نجاحا (الأثرياء و المتميزون ......الخ ) و هو مايضرب فكرة العدالة الاجتماعية و تذويب الفوارق الطبقية بين البشر و التى لطالما نادت بها حركات اليسار العالمى فى مقتل .


و حتى المنظرون للديمقراطية الليبرالية الغربية كفرانسيس فوكوياما مثلا (صاحب كتاب نهاية التاريخ و الانسان الأخير )  يرون  أنها اذا وضعت حيز التنفيذ ستكون نهاية الديمقراطية الليبرالية الغربية - لفوكوياما  كتاب كامل حول هذا الموضوع -و لذلك فانها أخطر فكرة عرفها الجنس البشرى على الاطلاق أو على حد تعبيره the world's most dangerous idea
و لكن على الجانب الأخر طبعا فان المؤيدون كرونالد بايلى يرون أنها الحركة التى تلخص أكثر تطلعات البشرية مثالية و ابداعا و شجاعة و جرأة .






* سأحاول فى  الحلقات القادمة تقديم كل المعلومات الممكنة عن هذه الحركة (تاريخها ، النظريات السياسية و الأخلاقية المتعلقة بها ،الشرح التفصيلى للتقنيات التى يأمل (مابعد الانسانيين ) فى استخدامها لتحقيق أهدافهم ك mind-uploading أو تحميل الدماغ و الوعى البشرى على حاسبات فائقة السعة و السرعة و  الهندسة الوراثية ..الخ ، الاعتراضات الموجهة اليها و الردود عليها ) و بما أن المصادر العربية منعدمة تقريبا فسيكون اعتمادى الأساسى على المصادر الانكليزية و لعل أهمها:


* كتاب The Singularity Is Near  by  Raymond Kurzweil


*ويكبيديا الانجليزية رائعة أيضا و الصفحة الخاصة بحركة مابعد الانسانية تشتمل الكثير من المعلومات و منسقة بشكل دقيق :
http://en.wikipedia.org/wiki/Transhumanism


*موقع الاتحاد العالمى ل(ما بعد الانسانيين ) أو الترانسهيومانستس(لو أردنا تعريب الكلمة  ) :
http://humanityplus.org/


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق