الخميس، 19 مايو 2011

عباقرة و عظماء : الحلقة الأولى - ريتشارد فاينمان




يمكننى أن أتعايش مع الشك و عدم اليقين و عدم المعرفة ، أعتقد أن التعايش مع عدم المعرفة أكثر تشويقا و أفضل من الاعتقاد فى  اجابات  خاطئة .لدى اجابات تقريبية و معتقدات تتسم بالاحتمالية و درجات مختلفة من اليقين حول أشياء متعددة. و لكنى لست متأكدا بشكل تام  من أى شىء و فى بعض الحالات لا أعرف أى شىء على الاطلاق عن أشياء من قبيل : هل السؤال الخاص ب"لماذا نحن هنا " يحمل أى معنى على الاطلاق ،يمكننى التفكير بصدده  لمدة قصيرة و لكن اذا لم أستطع ايجاد  اجابة ، أتوجه بفكرى الى أى شىء أخر فأنا لست مضطرا لأن أمتلك اجابة يقينية .لا أشعر بالخوف من عدم معرفة الأشياء ، من الضياع فى كون غامض لا يحمل أى هدف أو غاية - و هذه هى حقيقته  فعلا كما يمكننى أن أخمن - هذا لا يخيفنى البتة .


ريتشارد فاينمان ،  (متعة معرفة الأشياء)




الله ماهو الا  كلمة تم اختراعها لتفسير الأشياء الغامضة ، فهو يتم استخدامه دائما لتفسير الأشياء التى لا تفهمها .الأن عندما تكتشف فى النهاية كيفية عمل ظاهرة ما ،فأنت تمتلك بعض القوانين التى أخذتها من نطاق الاله ، و لم تعد بحاجة اليه لتفسير هذه الظاهرة ، و لكنك تحتاجه بالنسبة الى الألغاز الاخرى .و من ثم فأنت تتركه يخلق الكون لأننا لم نكتشف أصل الكون بعد، أنت بحاجة اليه لفهم الأشياء التى تعتقد بأن القوانين العلمية لن تفسرها مثل الوعى الانسانى أو لماذا تحيا لفترة معينة من الزمن -الحياة و الموت - و أشياء من هذا القبيل .دائما مايتم ربط الآلهة بالأشياء التى لا تفهمها، و لذلك فأنا لا أعتقد بأن قوانين الطبيعة يمكن اعتبارها شبيهة بالاله لأننا قد عرفنا آلية عملها و لم تعد غامضة على الاطلاق .


ريتشارد فاينمان ، مقتبس من كتاب ( الأوتار الفائقة -نظرية كل شىء) /تحرير بول ديفيز و جوليان براون 




تمهيد 


دائما ما نجد كتب التاريخ ممتلئة بقصص حول الملوك  و الأمراء و الحروب و المذابح و المؤامرات و القادة العسكريين و الأديان و الأنبياء و الآلهة  ....الخ ، و كأن أهم ما قدمه الجنس البشرى طيلة فترة وجوده على هذا الكوكب هو ملوكه و أمرائه و أنبيائه ،بينما الحقيقة أن أعظم رحلة قام بها الجنس البشرى هى الرحلة التى بدأت قبل 2600 عام على أقل تقدير  لكشف أسرار الطبيعة و استغلالها لصالحه . فتأثير( جيمس واط )-مخترع المحرك البخارى المكثف الذى ساهم فى الثورة الصناعية و التى غيرت ملامح المجتمعات البشرية الى الأبد - مثلا فى التاريخ البشرى لا يقل عن تأثير نابليون بونابرت ، بل  فى الحقيقة تأثيره  أعظم و أطول استمرارا  ، لكن كما هى العادة أصوات البنادق و المدافع  الصاخبة هى التى تجذب  الجماهير و ليست لغة العلماء الباردة و الجافة .
هذا الموضوع  لربما يكون بداية محاولة لاخراج العلماء من معاملهم فى اطار أكثر انسانية و أكثر قربا من المفاهيم الاعتيادية لأمثالنا من الفانين الذين لم ينالوا درجة الدكتوراة من هارفارد فى العلوم الطبيعية ، و لن تتاح لهم الفرصة غالبا لفهم المعادلات الرياضية  المعقدة التى يتم بواسطتها وصف الطبيعة فى الفيزياء الحديثة ، و بغض النظر عن امكانية النجاح من عدمه فالمحاولة ضرورية لأن الرحلة شيقة حقا ،و لأن هدفنا النهائى ليس أقل من فك طلاسم الوجود و الوصول الى أفضل فهم ممكن للعالم الذى نعيش فيه .


مقدمة 


فى استفتاء تم اجراؤه  بين مائة من أهم علماء الفيزياء المعاصرين  على مستوى جامعات عالمية متعددة فى نهاية الألفية الماضية  ، كان السؤال حول تقييمهم لأعظم علماء الفيزياء على مدار  التاريخ  البشرى بأكمله . و كانت النتيجة لمن احتلوا المراتب العشرة الأولى بالترتيب التالى :


1- ألبرت أينشتاين /     ألمانى-سويسرى-أمريكى 


2-  إسحق نيوتن /           بريطانى 


3- جيمس كلارك ماكسويل / بريطانى 


4- نيلز بور /                دانماركى 


5- فيرنر هايزنبرغ /          ألمانى 


6- جاليليو جاليلى /          ايطالى 


7- ريتشارد فاينمان /          أمريكى 


8- بول ديراك /              بريطانى 


9- إرفين شرودنغر/           نمساوى 


10- إرنست رذرفورد /       نيوزيلندى -بريطانى 


http://news.bbc.co.uk/2/hi/541840.stm




*من المتفق عليه  أن علم الفيزياء هو أكثر العلوم أساسية و هو بذلك حجر الأساس لكل العلوم الأخرى و معارفنا عن العالم الواقعى ،و لذلك فلا غرابة أن أعظم العقول التى أنجبتها البشرية أتجهت الى دراسته -اسم أينشتاين مثلا أصبح يستخدم بمعنى لفظ عبقرى ، و أينشتاين نفسه  تم اختياره بواسطة مجلة التايم الأمريكية كأهم شخصية فى القرن  العشرين متفوقا على كل الشخصيات السياسية و الاقتصادية و العسكرية الأخرى - ، حياة هؤلاء العلماء لم تكن جافة مملة  كما قد يتصور البعض تنحصر بين جدران معاملهم الأربعة مع وقت ضئيل جدا يستمتعون به تحت الشمس ، بل على العكس   تماما معظمهم  عاش حياة حافلة مثيرة بجانب طبعا اسهاماتهم العلمية الجليلة الشأن و التى وسعت من معارف الجنس البشرى بشكل كبير .


و أفضل أن أبدأ بشخصية فريدة من نوعها فى تلك القائمة لأعظم علماء الفيزياء فى التاريخ ، و هو العالم الأمريكى العظيم ريتشارد فاينمان .






بطاقته الشخصية


ولد (ريتشارد فيلبس فاينمان) فى الحادى عشر من مايو 1918 فى حى كوينز بمدينة نيويورك ،الولايات المتحدة الأمريكية لأبوين يهوديين من أصول بولندية و روسية و لكنهما لم يكونا متدينين .  و ريتشارد وصف نفسه بأنه أصبح ملحدا صريحا منذ بدايات شبابه .تأثر ريتشارد كثيرا بوالده الذى كان يشجعه دائما على التفكير و البحث و تحدى المعتقدات التقليدية و التفكير الجامد، بينما ورث عن والدته روح الدعابة التى تحلى بها طيلة حياته .له أخت وحيدة (جوان فينمان ) و التى أصبحت هى الاخرى عالمة متميزة  و تخصصت فى الفيزياء الفلكية حيث كانت لها اسهامات مهمة .




سجله التعليمى


بينما كان (فاينمان ) يقضى عامه الأخير  بالثانوية العامة الأمريكية اشترك فى بطولة منافسات الرياضيات التى تقيمها جامعة نيويورك و فاز بها ،و كان الفارق بينه و بين أقرب منافسيه كبيرا لدرجة أدهشت المحكمين .بعد ذلك تقدم بطلب التحاق الى جامعة كولومبيا  لكن تم رفضه بسبب أصوله اليهودية (فى ذلك الوقت كان هناك عدد محدد من المقاعد للطلبة أصحاب الأصول اليهودية ) ،فالتحق بمعهد ماساتشوستش للتكنولوجيا (MIT) حيث حصل على شهادته الجامعية ،و من ثم أكمل دراساته العليا فى جامعة برينستون حيث حصل على شهادة الدكتوراة الخاصة به عام 1942 -و هو لم يتجاوز ال 23 من عمره بعد - تحت اشراف العالم الكبير (جون ويلر ) ، و كانت أطروحته للدكتوراة عبارة عن تطوير مقاربة جديدة فى ميكانيكا الكوانتم باستخدام (مبدأ القدر الأدنى من الفعل ) حيث استبدل النموذج الموجى فى معادلات (جيمس ماكسويل ) التى تصف القوة الكهرومغناطيسية بنموذج يقوم على تفاعل الجسيمات ،و هو ما كان يعتبر مقدمة لاسهاماته العلمية القادمة فى فيزياء الكوانتم .


يقول (جيمس جليك ) فى كتاب (عبقرى: حياة و علم ريتشارد فاينمان )   " هذا كان فاينمان بالقرب من ذروة امكاناته ،فى عمر الثالثة و العشرين لم يكن هناك أى فيزيائى على ظهر الأرض يستطيع أن يصل الى  درجة تحكمه بالمقومات الأصلية للفيزياء النظرية ،فهى لم تكن مجرد موهبة رياضية -على الرغم من أنه كان واضحا ان الآلة الرياضية التى نتجت عن تعاون فاينمان و ويلر كانت أكبر كثيرا من قدرات ويلر - فاينمان بدا و كأنه يمتلك راحة مخيفة مع طبيعة المادة التى تكمن خلف المعادلات .قلة فقط من العلماء هم من امتلكوا مثل هذه الموهبة  كألبرت أينشتاين فى عمر قريب من عمره ، أو الفيزيائى السوفيتى ليف لاندو  "




مشروع مانهاتن




الصورة : ريتشارد فينمان (فى اليسار) مع روبرت اوبنهايمر ( فى اليمين )



فى جامعة برنستون ، شجع الفيزيائى (روبرت ويلسون ) فاينمان على الاشتراك  فى مشروع مانهاتن - مشروع انتاج القنبلة النووية أثناء الحرب العالمية الثانية و الذى كان تحت اشراف العالم الفذ (روبرت أوبنهايمر )    ،و صرح فاينمان لاحقا بأن دافعه للاشتراك فى مشروع مانهاتن كان احساسه بضرورة انتاج  الولايات المتحدة للقنبلة الذرية قبل نجاح ألمانيا النازية فى ذلك . و هكذا وجد فاينمان الشاب ذو الثلاثة و عشرين عاما مشتركا فى أخطر مشروع علمى فى التاريخ .و كان له اسهامات مهمة فى المشروع لا مجال لتفصيلها  لصعوبتها التقنية .و كان فاينمان حاضرا فى اختبار ترينتى -التجربة الاولى للقنبلة الذرية التى جرت فى السادس عشر من يوليو عام 1945 فى صحراء نيومكسيكو الأمريكية -

بالعودة الى  (لوس ألاموس ) حيث كان المقر الرئيسى السرى لمشروع مانهاتن بين الأعوام من 1943 الى 1945 ، يقول  فاينمان بأنه كثيرا ما كان يشعر بالملل فالمكان كان معزولا تماما بسبب الطبيعة الخطرة و فائقة السرية  للمشروع ،و لم يكن هناك أى شىء يمكن للمرء فعله أثناء وقت فراغه على الاطلاق . لذلك فكانت تسليته المفضلة هى فك شفرات الأقفال السرية للخزائن التى كان يتم حفظ بها ورق الأبحاث المهمة ،و فى احدى المرات ترك ورقة بها الشفرة السرية لاحدى الخزائن فوقها مما دفع زميله (فريدريك هوفمان ) بالتشكك حول احتمالية وجود جاسوس فى المقر تمكن من التوصل الى شفرة احدى الخزائن .بينما كانت هوايته الأخرى و التى استمرت معه طيلة حياته هى العزف على الدرامز  و ربما بعض الرقص و الغناء على سبيل تقضية الوقت- كان فاينمان  العالم الفذ مولعا بالفنون  فمن هواياته الاخرى كان الرسم أيضا  - .

                                                       الصورة :    فاينمان و هوايته المفضلة 

و هناك حاز بشرف اجراء نقاشات متعددة مع العالم العظيم (نيلز بور ) ، بالاضافة الى صداقته مع مدير المشروع (روبرت اوبنهايمر ) و الذى حاول بعد انتهاء الحرب أن يجذبه للعمل معه فى جامعة كاليفورنيا-بيركلى  و لكنه لم يوفق فى مسعاه .

بعد الحرب العالمية الثانية 


اتجه فاينمان الى جامعة كورنيل حيث قام بتدريس الفيزياء من العام 1945 الى العام 1950قبل أن يتجه الى معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا حيث قضى بقية سجله الوظيفى هناك.

فى معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا
 

أنتج فاينمان أهم اسهاماته العلمية هناك و أبرزها :

* نظرية الديناميكا الكهربائية الكمية  و التى نال عنها جائزة نوبل فى الفيزياء عام 1965 مشاركة مع كل من جوليان شوينغر و سين-إيتيرو توموناكا و قد عمل فاينمان على هذه النظريةمن أيام عمله فى جامعة كورنيل 
و فيها تمكن فاينمان من تقديم طريقة جديدة للتفكير فى ميكانيكا الكم /الكوانتم


التواريخ المتعددة (حاصل جمع التواريخ )




* تحدى فاينمان الفرض الكلاسيكى القائل بأن لكل جسيم تاريخ واحد معين ،و طرح بدلا من ذلك أن الجسيمات تتحرك من موضع لأخر خلال أى مسار ممكن فى الزمكان ،و ربط فاينمان كل مسار برقمين أحدهما لحجم أو سعة الموجة و الأخر لطورها -اذا ما كانت عند القمة أو القاع - و تحسب احتمالات أن ينتقل جسيم من  (أ) الى  (ب) من تجميع الموجات المصاحبة لأى مسار ممكن يمر خلال (أ) و (ب).
بالطبع قد يبدو هذا غريبا بالنسبة لنا ففى حياتنا اليومية العادية نرى أن الأجسام تتبع مسارا واحدا من مصدرها حتى وجهتها النهائية و لكن هذا لا يختلف مع نظرية التواريخ المتعددة لدى فاينمان فبالنسبة للأجسام الكبيرة (الماكروسكوبية ) و التى تصفها قوانين نيوتن الكلاسيكية للحركة سنجد أنه عند تجميع اسهامات كل المسارات المحتملة فانها كلها يلغى الواحد منها الأخر فيما عدا مسار واحد ، فليس هناك الا مسار واحد من ذلك العدد اللانهائى من المسارات هو الذى له أهميته .

*هذه الفكرة حلت مشكلة كبيرة فى فيزياء الكوانتم -و هى أهم نظرية علمية تم تطويرها على الاطلاق على مدار التاريخ البشرى و تم التأكد من تنبؤاتها التجريبية بدقة تصل الى جزء من المليار -  فمبدأ عدم اليقين لهايزنبرغ و هو لب الفيزياء الحديثة يخبرنا بأن الكون على أكثر المستويات أساسية ذو طبيعة احتمالية و يشبه (ستيفن هوكينغ ) هنا الكون بأنه كازينو قمار هائل يدحرج فيه النرد أو تدور فيه عجلات الروليت فى كل فرصة ، و هذا العنصر العشوائى فى ميكانيكا الكم هو ما اعترض عليه أينشتاين بعبارته الشهيرة (الله لا يلعب النرد ) -رغم ان اينشتاين لم يكن مؤمنا بأى اله شخصى الا ان عقله لم يستطع تقبل كيفية ادخال ميكانيكا الكوانتم عنصر العشوائية و الاحتمالية كمبدأ أساسى أصيل فى الطبيعة - و لأن الكون كبير جدا كما هو الحال الأن فان هناك عدد كبير جدا لدحرجات النرد و يصبح للنتيجة متوسط يمكن للمرء أن يتنبأ به و هذا هو السبب فى أن قوانين الفيزياء الكلاسيكية تصلح للمنظومات الكبيرة و لكن تفشل عند التنبؤ بسلوك الجسيمات الميكروسكوبية  و من ضمنها الكون كما كان بعد الانفجار العظيم مباشرة فهنا لا يوجد سوى عدد قليل من رميات النرد و يصبح مبدأ عدم اليقين مهما جدا ،و بما أن دحرجة النرد تتواصل بلا انقطاع فى الكون فالكون لا يكون له تاريخ واحد ،بدلا ذلك يجب أن يكون للكون أى تاريخ ممكن و كل تاريخ له احتماله الخاص به .و هذا يفتح المجال للحديث حول  نظريات الأكوان المتوازية و العوالم المتعددة .

هذه الفكرة التى تبدو كأنها سيناريو لفيلم خيال علمى أصبحت مقبولة الأن كحقيقة علمية و الفضل يرجع فى ذلك لفاينمان الذى صاغها فى صورة نظرية علمية (مخططات فاينمان )

مخططات فاينمان تعتبر اليوم أساسية بالنسبة للنظريات الفيزيائية التى  تطمح الى توحيد نظريات الفيزياء (الاوتار الفائقة -النظرية ام ) ، بل و بنى (ستيفن هوكينغ ) و (جيم هارتل ) فرض (ظرف اللاحدية ) بناءا على توليف النسبية العامة لأينشتاين مع  فكرة التواريخ المتعددة لفاينمان .


*عمل فاينمان كان مهما أيضا فى التوصل الى النظرية الحالية للكواركات (احد الجسيمات الاولية التى تكون البروتونات و النيوترونات) و تعد فتحا مهما فى فيزياء الجسيمات الأولية ، بالاضافة الى العديد من البحوث و الاسهامات الأخرى التى لن يتسع المجال هنا لذكرها .


علم النانوتكنولوجى 



(هناك الكثير من الغرف فى القاع ) كان هذا هو عنوان المحاضرة  التاريخية التى ألقاها فاينمان فى احدى ليالى ديسمبر الباردة فى حفل أقامته الجمعية الأمريكية للفيزياء لتكريمه  عام 1959،و هناك أعطى فاينمان مثالا للتفكير الثورى الخلاق الذى لا تلجمه أى أفكار تقليدية ،حيث أعطى تصورا عن امكانية تغيير خواص أى مادة  عن طريق اعادة ترتيب ذراتها ، حيث أن هناك علاقة مباشرة تربط بين بنية تركيب المادة و خواصها ،سواء كانت خواصا كيميائية أو فيزيائية أو ميكانيكية فكل هذا يعتمد على البنية الداخلية للمادة و أماكن وجود الذرات بها و عدد الذرات بشبكتها البلورية .
ما عرضه فاينمان فى هذه المحاضرة اعتبره الكثيرون خيال محض فى هذا الوقت لصعوبة تحريك ذرات أى مادة و عدم توافر الوسيلة التى تسمح بذلك ، و لكن هذه المحاضرة كانت بمثابة الباب الذى فتحه فاينمان على مصراعيه أمام  ثورة النانوتكنولوجى و التى يعتبرها الكثيرون أهم ثورة تكنولوجية و علمية من أيام  ثورة نيوتن فى الفيزياء و الثورة الصناعية ، فهى ستفتح المجال أمام البشر الى عوالم أخرى من التقدم و الازدهار .


الشارح الأعظم 



مواهب فاينمان لم تقتصر فقط على كونه عالم عظيم أو قدرته التى لا ينافسه فيها أحد من حيث التفكير بشكل غير تقليدى و خلاق و مبتكر،أو موهبته فى الرياضيات التى أذهلت الكثيرين ،بل انه اكتسب سمعة لا تضاهى فى قدرته على توصيل المعلومة مهما بلغت درجة صعوبتها الى طلابه، فهو كان يعتبر أن من الواجب الأخلاقى على أى عالم أن يجعل الموضوع الذى يود شرحه قابلا للفهم بواسطة أى شخص حتى و لو لم يتمتع الا بمعرفة بسيطة أو متوسطة .
محاضرات فاينمان فى الفيزياء و التى قام بتدريسها على مدار عامين 1961-1963 للطلبة فى معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا و التى شملت الفيزياء الكلاسيكية و فيزياء الكوانتمو الكهرومغناطيسية و الرياضيات التى يتم استخدامها فى فروع الفيزياء المختلفة أصبحت تراثا كلاسيكيا بالنسبة لكل من يريد يتعلم الفيزياء بشكل يخلو من التعقيدات  و على يد أحد أعظم الفيزياء على الاطلاق  .بيع من هذه المحاضرات  أكثر من مليون و نصف نسخة بالانجليزية و مليون نسخة بالروسية و نصف مليون بلغات أخرى .

العلم الحقيقى و الزائف




كأى عالم حقيقى لم يحب فاينمان كل هذه الافتراضات و التخمينات  التى تمتلىء بها العلوم الاجتماعية (و خاصة علم النفس بالنسبة له)  و التى تدعى العلمية بينما هى كأى علم زائف ليس لها أى برهان يشهد لها  بالصحة ،و فى حفل تخرج طلبة معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا عام 1974 ألقى فاينمان خطابا انتقد بشدة كثرة العلوم الزائفة و التى تتخفى فى شكل العلم الحقيقى قبل أن يخبر الطلبة "أول مبدأ يجب عليكم تعلمه هو  عدم خداع النفس - خاصة و أنك أسهل شخص يمكنك خداعه - ، لذلك يجب عليكم أن تكونوا  حذرين بخصوص ذلك ، و بعد أن تتوقف عن خداع نفسك ، سيكون من السهل بالنسبة لك ألا تخدع الاخرين"

كارثة المكوك الفضائي تشالنجر


لعب فاينمان دورا مهما فى التحقيق فى كارثة المكوك الفضائى تشالنجر حيث كان عضوا فى اللجنة الرئاسية التى تم تشكيلها بأمر من الرئيس (رونالد ريجان ) للتحقيق فى الواقعة الكارثية ،و قام فاينمان باجراء مقابلات عدة مع مدراء وكالة الفضاء الأمريكية ناسا ،و كان استنتاجه أن تقديرات خبراء ناسا كانت غير واقعية و حذر فى تقريره الذى قدمه بأن " اذا أردت ان تمتلك  تكنولوجيا ناجحة يجب عليك أن تبنى حساباتك بناء على معطيات الواقع  و ليس العلاقات العامة، فالطبيعة لا يمكن خداعها"

آراء حول الدين و السياسة و الفلسفة 


فاينمان كان ملحدا منذ بدايات شبابه رغم أصوله اليهودية ،و كان لديه تقدير عميق للأسس التى تم بناء الحضارة الغربية عليها كالتعايش السلمى بين المعتقدات المختلفة و الفصل بين الدين و الدولة ،و روح عصر التنوير التى تهتم دائما بالغد المشرق لا بالماضى السحيق ،و التى ترى أن من واجبها التساؤل حول المجهول و محاولة معرفته و ليس الاكتفاء بالاجابات الدوغمائية السخيفة التى تقدمها الأديان أو الأيديولوجيات الشمولية .

 و فكره السياسى  كان أقرب الى الليبرالية الكلاسيكية منها الى أى معتقد سياسى  أخر ، فقد آمن باهمية تحديد صلاحيات الحكومات و عدم تدخلها الا بالشكل الذى يحفظ مصالح المجتمع ، و كان قويا فى رفضه تدخل الدولة فى كيفية عمل المؤسسات العلمية و التعليمية على وجه الخصوص .

بينما سببت وجهة نظره  حول الفلسفة  غضب الكثير من الأكاديميين المتخصصين بالفلسفة منه، فقد كان دائم السخرية من الفلاسفة الذين يجلسون على الأرائك المريحة ليكتبوا تصوراتهم  حول الوجود و الوعى و الكون ...الخ-لم يكن يفوت فرصة تقريبا فى محاضراته للسخرية من هذا اللون من الفلسفة - ، فالعلم التجريبى بالنسبة له هو الفيصل و هو الطريقة الوحيدة لمعرفة قوانين الطبيعة و ماهية الأشياء و ليس التفلسف الذى لا يستند الى أى أسس واقعية ،و هو فى ذلك يحذو حذو رذرفورد و كثير من العلماء غيره ،فمشكلة الفلسفة فى رأيه هى الكم الهائل من الأفكار الساذجة و الخاطئة التى تعج بها امهات الكتب الفلسفية و التى لا تعدو سوى  أن تكون مجرد ألعاب لفظية فى رأيه .

وفاته

أصيب فاينمان بنوعين نادرين من  الأورام السرطانية  فى نهاية حياته ،و فى يوم 15 فبراير 1988 توفى فاينمان عن عمر يناهز التاسعة و الستين ،و كانت أخر كلماته المسجلة لأحد أصدقائه لا تخلو من روح الدعابة التى امتاز بها طيلة حياته تعليقا على اصابته بنوعين نادرين من السرطان "أكره أن أموت مرتين ، ان هذا لأمر ممل حقا "

و فى عام 2005 أصدرت هيئة البريد الأمريكية طابع تذكارى تخليدا لريتشارد فاينمان ، مع ثلاثة علماء أخرين ،و لا غرابة فهو بلا جدال أعظم عالم امريكى .

هذه قصة رجل استثنائى جمع بين روح الدعابة التى لا مثيل لها  و القدرات العقلية الخارقة ، استمتع بعزف الدرامز و الرقص كما استمتع بتبسيط  الفيزياء الحديثة المعقدة . اسهاماته العلمية بخصوص  الديناميكا الكهربائية الكمية  و تأسيسه لعلم النانوتكنولوجى بالاضافة الى  اشتراكه فى صنع القنبلة الذرية  . دافع عن الحرية بكل قوة حيث أنها الضمان الوحيد لازدهار الحضارة و تقدم العلم  ،عاش حياته بلا آلهة يعبدها و لكن عطاؤه العلمى للبشرية فاق كل ما تمت كتابته فى الكتب المقدسة الموحى بها من عند الآلهة المزعومة  .ريتشارد فاينمان فلترقد بسلام.





هناك 3 تعليقات:

  1. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  2. كم استمتعت وانا اقراء لهذا المخلوق ، لقد خلق فيني احترامة

    ردحذف
  3. كم استمتعت وانا اقراء لهذا المخلوق ، لقد خلق فيني احترامة

    ردحذف