الخميس، 19 مايو 2011

عن شاعرية العلم و معنى الحياة




"حياة الولادة فيها حكم بالإعدام على الإنسان يستمر بتنفيذه طوال حياته، فالبدء فراغ، عدم، والنهاية أسوأ، والوجود وتر مشدود بين عدمين، الإنسان مرشوق في العالم لا أرض تعينه ولا سماء تنجده، والآخرون هم الجحيم، وكلُّ ما في الحياة يوحي بالغثيان.


 فرانتس كافكا ، "في مستوطنة العقاب






" بعد نومنا الطويل لأكثر من عشرة ألاف مليون عام ،استيقظنا أخيرا لنفتح أعيننا على كوكب ملىء بالحياة مضىء بالألوان.و فى خلال عقود قليلة سنضطر الى اغلاق أعيننا مرة أخرى ، أليس من النبل أن نقضى وقتنا الضئيل هذا تحت الشمس لنعمل على فهم الكون و كيف أمكننا أن نستيقظ فيه ؟ هذه هى اجابتى عندما يتم سؤالى-مرات كثيرة لشدة دهشتى –لماذا ترهق نفسك و تستيقظ فى الصباح؟ "


ريتشارد دوكنز ، عالم بيولوجيا تطورية 






هل يوجد معنى حقيقى  للحياة ؟ و كيف يجب علينا أن نعيشها ؟ 


هذان سؤالان جوهريان عن الحياة التى نعيشها  و العالم الذىنحيا  فيه ،و بالطبع  كانت هناك اجابات عديدة عن هذا السؤال على مدار التاريخ المكتوب ،معظمها كان يصب فى خانة أن معنى الحياة لأى بشرى مرتبط بنزوات و أهواء آلهة خرافية   ما تعيش فى اماكن غامضة و أن الطريقة المثلى لقضاء هذه الفترة الضئيلة من الزمن التى تستغرقها حياة الفرد البشرى هى ممارسة عدد من الطقوس و الشعائر المقدسة لتمجيد هذه الآلهة ، هذه النظرة للعالم لم تكن محصورة فقط فى العصور القديمة (هؤلاء الذين عبدوا آلهة بابل أو مصر القديمة أو اليونان و روما ....الخ) بل هى نظرة شائعة حتى فى العصور الحديثة و الأديان الابراهيمية خير مثال على ذلك ، مثلا يخبرنا القرآن كتاب الاسلام المقدس بأنه ( و ما خلقت الجن و الانس الا ليعبدون ) ، هذه النظرة نجدها فى المسيحية أيضا و عدد من التقاليد الدينية الأخرى باعتبار أن  الغاية العظمى من وجود الجنس البشرى  هى تمجيد الخالق المفترض  .


على الجانب الأخر نجد أن فلسفة العدمية الوجودية  التى تبلورت فى العصور الحديثة تخبرنا بأنه لا يوجد أى معنى حقيقى  للحياة فنحن ما الا ذرات غبار فى ظلام الأبدية الدامس ، و كلنا بشكل ما أو اخر تنطبق علينا العبارة المقتبسة  أعلاه من رواية كافكا  ، فهل نحن بالفعل هكذا مجرد عرائس ماريونيت تتراقص قليلا قبل أن ينتهى الوقت المحدد للعرض ؟هل كل ما نعيشه و نرغب فيه و نقاتل من أجله ، كل  ما ابتدعناه من فن أو فلسفة  ، علم أو تقنية هو محض وهم  اخترعناه لندارى هذه الحقيقة المؤلمة ؟


بتقدم العلم الحديث و الذى يؤرخ لبدايته بالثورة الكوبرنيكية فى علم الفلك  ، تهدمت العديد من الأصنام و الأوثان و انتهت تقريبا كل أوهام الأديان التقليدية من قبيل  موقع الانسان المتميز فى الكون أو ( و لقد خلقنا الانسان فى أحسن تقويم ) فعلم الفلك يخبرنا بأن الأرض ليست مركز الكون بل ما هى الا كوكب صغير يدور حول نجم متوسط الحجم ( الشمس ) فى طرف مجرة متوسطة الحجم (درب التبانة ) و هناك ما لا يقل عن مائة مليار نجم فى مجرتنا بمفردها ، و مجرتنا نفسها ما هى الا مجرة وحيدة بين حوالى مائة مليار مجرة أخرى ، و لكن هذا لا يمثل الكون كله  فالكون المرئى يمثل جزءا ضئيل جدا  من حجم الكون الفعلى  ، بل و المصيبة الأكبر أنه حسب النظريات الحديثة فى علم الكوزمولوجى كوننا هذا بأكمله  لربما لا يتعدى أن يكون سوى فقاعة فى بحر لا نهائى من الأكوان المتوازية ، أو مرحلة بسيطة انتقالية  فى سلسلة لانهائية من الاكوان المتعاقبة .


و لكنه لم يكن علم الفلك بمفرده الذى أيقظنا من سباتنا العميق بل أضاف علم البيولوجى الى جراح البشرية جرحا عميقا بكشفه عن تاريخنا التطورى الطويل لنكتشف فى النهاية أننا نتشارك مع البيكتريا سلفا مشتركا ، فعلى مدى 4 مليارات عام تطورت الحياة على كوكب الأرض و أنتجت حوالى  مليار نوع انقرض معظمهم ( 99%) و المتبقى الأن حوالى عشرة ملايين نوع .كل منهم يقف على قمة السلم التطورى مثلنا تماما فلأن التطور ليس بعملية غائية فالهومو سابينز ( أو الانسان الحديث ) ليس بكائن متميز بل هو نوع أخر من بين مئات ملايين الأنواع التى ظهرت ،و لا يتجاوز عمره على ظهر كوكب الأرض المائتى ألف عام بينما الميكروبات مثلا حكمت الأرض لمدة تتجاوز المليارى عام .


 الديناصورات حكمت الأرض لأكثر من مائة و ستين مليون عاما قبل أن تنقرض بفعل نيزك من الفضاء الخارجى مع عدد أخر من الكائنات ،و الغرض الأساسى من الحياة طبقا لعلم البيولوجى  هو تمرير جيناتك ، قصص الحب الملتهبة و الكم الهائل من المشاعر التى يتمتع بها الانسان كالغيرة أو التعاطف و متعة ممارسة الحب مع العشيق كلها تصب فى خانة واحدة ( ضمان تمرير الجينات ) .


 حتى الوعى   الانسانى الذى  لم يصل الى  ما يشبه صورته الحالية  الا فقط  قبل حوالى  40 ألف عام و الذى مكننا من زيادة قدرتنا على الاختراع و التواصل  ليس باعجاز خارق للعادة، بل ماهو الا ظاهرة بيولوجية أخرى كالهضم أو التنفس  كما يخبرنا علماء النيروبيولوجى، و لربما لا يختلف  كثيرا فى الأساسيات عن كيفية عمل  الحواسيب الالكترونية كما يتكهن علماء الذكاء الاصناعى ،بمعنى اخر ما نطلق عليه كلمة الروح  بكل ما تحمله من قيم أخلاقية أو ابداع فنى أو تساؤل فلسفى أو ذكاء معرفى أقرب الى  الروبوتات منها الى أى شىء أخر .


و لكن انتظر القصة لا تنتهى هنا فعلم الكيمياء لديه ما يضيفه .الحياة برمتها ما هى الا ماكينة  كيميائية أو بمعنى أخر أنت و كل الكائنات الحية عبارة عن قمامة كيميائية أخرى لا تختلف عن الموجودات الأخرى  ، أكثر تعقيدا بالتأكيد و لكنها ليست كيمياء مختلفة على الاطلاق .


ثم يختتم علم الفيزياء الحكاية باعتباره أكثر العلوم أساسية ليخبرنا باننا ما الا مجرد تجميعات أخرى من الذرات ( الكترونات و بروتونات و نيترونات ) أو حسب فيزياء الجسيمات الأولية الحديثة  (كواركات و لبتونات ) و بهذا عزيزى القارىء أنت لا تختلف فعليا عن الكرسى الذى تجلس عليه  الأن و بعد موتك سيكون التماثل بينكما كاملا .




* للوهلة الأولى يبدو لأى عاقل أن الصورة التى يقدمها لنا العلم الحديث تدعم بكل تأكيد العدمية الوجودية ، و أن السؤال المنطقى الوحيد الذى يجب على كل منا طرحه على نفسه و على الأخرين  هو : لماذا لا ننتحر جميعا اذن ؟


اجابتى أنا شخصيا – و لدهشة البعض  اجابة الأغلبية من العلماء أنفسهم  _  ستكون  مخالفة تماما و لأسباب يقدمها لنا تاريخ العلم نفسه . 






دعونا نعود الى علم الأحياء التطورى لأنه العلم الذى يخبرنا بالسياق التاريخى الذى تطورنا فيه و كيف أصبحنا نحن هكذا ، أدمغتنا تطورت لتساعد أجسامنا على ايجاد طريقها عبر العالم الذى هو على المستوى الذى تعمل به تلك الاجساد .نحن تطورنا فيما يطلق عليه العلماء ( العالم المتوسط ) حيث تتحرك أشياء متوسطة الحجم ( نمور ، قردة ، أشباه بشر ، فراشات ...الخ ) بسرعات متوسطة و هذا هو نوعية العالم الذى يمكننا التعامل معه بسهولة و فهمه فيما يطلق عليه ( الحس المشترك ) .


 ما تراه حولك فى العالم هو ليس العالم الحقيقى بدون ماكياج بل هو مجرد نموذج للعالم الحقيقى منظم و منسق بمعلوماتنا التى نكتسبها عن طريق الحواس و مبنى بشكل مفيد للتعامل مع العالم الحقيقى ، تطورنا فى هذا العالم المتوسط ( و الذى سيكون بالنسبة لنا أدغال افريقيا طوال الستة ملايين عاما الماضية منذ انفصالنا عن الشمبانزى ) زودنا بامكانيات ضعيفة للتعامل مع أى أحداث ذات لا احتمالية عالية و لكن فى الفضاء الكونى الواسع أو الأزمنة الجيولوجية الطويلة ماقد يبدو مستحيل فى العالم المتوسط هذا سيصبح حتميا ، أسلافنا تعاملوا مع مشاكل من قبيل ( كيف يمكننى أن أرصد تحركات هذا النمر لأحافظ على بقائى ) و هذه هى نوعية المشاكل التى تطور الدماغ ليساعد على حلها .


لهذا مثلا تبدو الفيزياء الحديثة مثلا لغز عصى على الفهم بالنسبة لأناس كثيرين حتى العلماء أنفسهم ، نحن لا نستطيع فهم- الا بصعوبة بالغة و فقط عبر نافذة الرياضيات- كيفية التعامل مع الأشياء الكبيرة جدا (الماكروسكوبية ) و الأشياء الصغيرة جدا ( الميكروسكوبية ) أو عندما تتحرك الأشياء بسرعات قريبة لسرعة الضوء ، العلم يفتح لنا هذه النافذة الضيقة للفهم الى أبواب أوسع تمكننا من معرفة الطبيعة بل و التحكم بها .


 نحن لدينا نظرية النسبية العامة لأينشتاين و التى  تصف الكون على المستوى الماكروسكوبى  بمجراته و ثقوبه السوداء ...الخ ، و لدينا فيزياء الكوانتم التى تصف لنا العالم الميكروسكوبى بكل غرائبه بدقة بالغة تصل الى دقة قياس عرض شعرة من شعر الانسان كما يقول (ريتشارد فينمان ) ، و هناك فرق من العلماء تعمل على مستوى أكثر حتى أساسية من هاتين النظريتين اللتين تمثلان ذروة الانجاز العلمى البشرى ك (نظريات الجاذبية الكمية -  الاوتار الفائقة ) و فرق أخرى تضع نماذج رياضية تصف ما الذى حدث قبل الانفجار العظيم .


العلم ممثلا فى الطريقة التجريبية  و التفكير العقلانى حررنا الى حد ما من ميراث تطورى أعاق قدرة أسلافنا على فهم الطبيعة ،و بالتالى كانت انجازات العلم الحديث مدهشة  كما فى الصعود الى القمر أو قياس عمر الكون الحالى أو التحكم فى قوى الطبيعة ( القنبلة النووية ) أو الطب الغربى و زيادة متوسط عمر الفرد .


هذه الامكانيات لم تتح لأسلافنا الذين عاشوا حياة  قصيرة قاسية تسكن فيها التنانين المحيطات و تتلبس فيها الشياطين الأجساد ،و كانت وجبة طعام بالنسبة لهم متعة باهظة الثمن .


تأمل فى الأمر  أنت أيها القمامة الكيميائية -التى لا تعدو أن تكون سوى ذرات تجمعت كيفما اتفق لتكونك -،على الرغم من أن  وعيك ماهو الا ناتج هامشى جانبى لعملية تطورية غير موجهة استغرقت مليارات الأعوام ،بينما  الطبيعة نفسها ليست واعية أو غائية. 
فأنت بكل تأكيد  جزء  لا يتجزء من هذه الملحمة  الكونية الأزلية .


عندما بدأ الكون الحالى بالانفجار العظيم قبل 13.7 مليار عام و حتى الأن فان صداه مازال يتردد فى أنفاسك *، فأنت تحتوى بداخلك ذرات النجوم الأولى  التى انفجرت قبل مليارات السنين لتكون العناصر الثقيلة التى مهدت لنشوء الحياة على كوكب الأرض ، أنت مدين بكل تأكيد  لتلك النيازك التى اصطدمت بالأرض فى وقت مبكر من تاريخ نشؤها لينتج عن اصدام احداها  القمر ، تلك المركبات الكيميائية الأولية التى بدأت بها الحياة على كوكب الأرض ، الميكروبات و الكائنات البدائية التى قامت بتحويل غازات الأرض البدائية السامة الى الغلاف الجوى الذى نعرفه الأن ، ذلك الحيوان الشبيه بالدودة الذى وجد قبل 500 مليون عام ، تلك السمكة التى غادرت المحيطات قبل 300 مليون عام الى البر لتبدأ فصلا جديد من التاريخ البيولوجى ، ذلك الكائن الثدييى الضئيل الحجم الذى عاصر  الديناصورات و تمكن من البقاء حيا  ، القردة التى عاشت على الأشجار ،و أشباه البشر  الذين هبطوا على الأرض فى أحراش أفريقيا قبل ملايين السنين  ليعيشوا حياة الخطر و الصيد و القنص ، هؤلاء الذين ساقتهم الظروف المناخية الى أفاق جديدة و لينتشروا عبر قارات العالم المختلفة، هؤلاء الذين اخترعوا النار و قاموا بصناعة الأدوات الحجرية ، هؤلاء الذين بدأوا الحضارة و الزراعة قبل عشرة ألاف عام ،و  أولئك الذين ساعدوا على حفظ التراث البشرى باختراع الكتابة و عشرات الألاف من الأشخاص الذين ساعدوا على ازدهار الحضارة و زيادة المعارف البشرية باسهاماتهم العلمية و الثقافية  .


أنت مدين لكل هؤلاء سواء كانوا نجوما او ميكروبات أو أسماك أو كائنات ثديية ضئيلة أو قردة أو أشباه بشر أو بشر عاشوا حيواتهم كلها لا يعرفون سوى مهنتى الجمع و القنص ، ليست هناك فرصة لوجودك الأن  لو كان أحد أسلافك تخاذل قبل مليون عام و سمح لذلك النمر بأن يفترسه .


لو كان للعلم أن يعطينا درسا فهو كم نحن محظوظون لنكون هنا الأن ، على مدار الأربعة مليار عاما الماضية  –أى مئات الملايين من   الاجيال –كان على أسلافك ان يبقوا احياء و أن تنتقل جيناتهم بطريقة معينة  غاية فى الدقة حتى يكون لك وجود حاليا .


نحن  لا نتمتع فقط  بنعمة الوجود احياء بل و الوعى الكافى لأن نفهم و نقدر هذه الحياة و التاريخ الطويل وراءها ،و الأهم القدرة على تحسينها الى حد ما و قد شاهدنا كيف ساعدنا التفكير العلمى على ابداع نظريات علمية (الكوانتم و النسبية العامة ) تصف لنا الواقع بشكل أكثر دقة مما تعجز عنه حواسنا البسيطة أو يفشل حسنا المشترك فى تخيله .
 نحن  لسنا مدينين فقط لكل هؤلاء بل نحتويهم  بداخلنا  حرفيا : ذرات تكونت فى اللحظات الاولى من عمر الكون  و عناصر تم صنعها داخل النجوم و ميكروبات و أسماك و ثدييات و قردة و أشباه بشر ....الخ  ، نحن -القمامة الكيميائية التى ترقص و تغنى و تبدع و تخترع و تستكشف الكون على كوكب معزول فى غياهب الكون الشاسع-  فعليا نحتوى تاريخ الكون بداخلنا ،و هناك حياة واحدة فقط  نمتلكها لنعرف أكثر عن أنفسنا و عن الكون و اذا ساعدنا الحظ فلربما نضيف أثر صغير الى هذا التاريخ قبل رحيلنا .انها تجربة فريدة  جدا و أنت عزيزى القارىء جزء منها.




* لم يكن هناك صدى للانفجار العظيم لأنه لم يكن انفجار بالمعنى المفهوم ، كما أن عدد كبير من علماء الكونيات اليوم يتشككون فى الفرضية القائلة بأنه كان البداية .لكنى لم أستطع مقاومة استخدام هذا التعبير الشاعرى .

هناك تعليق واحد:

  1. رائعة بالفعل..
    شكراً لك على الكلمات الجميلة والمُعبِّرة.

    ردحذف