الخميس، 19 مايو 2011

عن شاعرية العلم و معنى الحياة




"حياة الولادة فيها حكم بالإعدام على الإنسان يستمر بتنفيذه طوال حياته، فالبدء فراغ، عدم، والنهاية أسوأ، والوجود وتر مشدود بين عدمين، الإنسان مرشوق في العالم لا أرض تعينه ولا سماء تنجده، والآخرون هم الجحيم، وكلُّ ما في الحياة يوحي بالغثيان.


 فرانتس كافكا ، "في مستوطنة العقاب






" بعد نومنا الطويل لأكثر من عشرة ألاف مليون عام ،استيقظنا أخيرا لنفتح أعيننا على كوكب ملىء بالحياة مضىء بالألوان.و فى خلال عقود قليلة سنضطر الى اغلاق أعيننا مرة أخرى ، أليس من النبل أن نقضى وقتنا الضئيل هذا تحت الشمس لنعمل على فهم الكون و كيف أمكننا أن نستيقظ فيه ؟ هذه هى اجابتى عندما يتم سؤالى-مرات كثيرة لشدة دهشتى –لماذا ترهق نفسك و تستيقظ فى الصباح؟ "


ريتشارد دوكنز ، عالم بيولوجيا تطورية 






هل يوجد معنى حقيقى  للحياة ؟ و كيف يجب علينا أن نعيشها ؟ 


هذان سؤالان جوهريان عن الحياة التى نعيشها  و العالم الذىنحيا  فيه ،و بالطبع  كانت هناك اجابات عديدة عن هذا السؤال على مدار التاريخ المكتوب ،معظمها كان يصب فى خانة أن معنى الحياة لأى بشرى مرتبط بنزوات و أهواء آلهة خرافية   ما تعيش فى اماكن غامضة و أن الطريقة المثلى لقضاء هذه الفترة الضئيلة من الزمن التى تستغرقها حياة الفرد البشرى هى ممارسة عدد من الطقوس و الشعائر المقدسة لتمجيد هذه الآلهة ، هذه النظرة للعالم لم تكن محصورة فقط فى العصور القديمة (هؤلاء الذين عبدوا آلهة بابل أو مصر القديمة أو اليونان و روما ....الخ) بل هى نظرة شائعة حتى فى العصور الحديثة و الأديان الابراهيمية خير مثال على ذلك ، مثلا يخبرنا القرآن كتاب الاسلام المقدس بأنه ( و ما خلقت الجن و الانس الا ليعبدون ) ، هذه النظرة نجدها فى المسيحية أيضا و عدد من التقاليد الدينية الأخرى باعتبار أن  الغاية العظمى من وجود الجنس البشرى  هى تمجيد الخالق المفترض  .


على الجانب الأخر نجد أن فلسفة العدمية الوجودية  التى تبلورت فى العصور الحديثة تخبرنا بأنه لا يوجد أى معنى حقيقى  للحياة فنحن ما الا ذرات غبار فى ظلام الأبدية الدامس ، و كلنا بشكل ما أو اخر تنطبق علينا العبارة المقتبسة  أعلاه من رواية كافكا  ، فهل نحن بالفعل هكذا مجرد عرائس ماريونيت تتراقص قليلا قبل أن ينتهى الوقت المحدد للعرض ؟هل كل ما نعيشه و نرغب فيه و نقاتل من أجله ، كل  ما ابتدعناه من فن أو فلسفة  ، علم أو تقنية هو محض وهم  اخترعناه لندارى هذه الحقيقة المؤلمة ؟


بتقدم العلم الحديث و الذى يؤرخ لبدايته بالثورة الكوبرنيكية فى علم الفلك  ، تهدمت العديد من الأصنام و الأوثان و انتهت تقريبا كل أوهام الأديان التقليدية من قبيل  موقع الانسان المتميز فى الكون أو ( و لقد خلقنا الانسان فى أحسن تقويم ) فعلم الفلك يخبرنا بأن الأرض ليست مركز الكون بل ما هى الا كوكب صغير يدور حول نجم متوسط الحجم ( الشمس ) فى طرف مجرة متوسطة الحجم (درب التبانة ) و هناك ما لا يقل عن مائة مليار نجم فى مجرتنا بمفردها ، و مجرتنا نفسها ما هى الا مجرة وحيدة بين حوالى مائة مليار مجرة أخرى ، و لكن هذا لا يمثل الكون كله  فالكون المرئى يمثل جزءا ضئيل جدا  من حجم الكون الفعلى  ، بل و المصيبة الأكبر أنه حسب النظريات الحديثة فى علم الكوزمولوجى كوننا هذا بأكمله  لربما لا يتعدى أن يكون سوى فقاعة فى بحر لا نهائى من الأكوان المتوازية ، أو مرحلة بسيطة انتقالية  فى سلسلة لانهائية من الاكوان المتعاقبة .


و لكنه لم يكن علم الفلك بمفرده الذى أيقظنا من سباتنا العميق بل أضاف علم البيولوجى الى جراح البشرية جرحا عميقا بكشفه عن تاريخنا التطورى الطويل لنكتشف فى النهاية أننا نتشارك مع البيكتريا سلفا مشتركا ، فعلى مدى 4 مليارات عام تطورت الحياة على كوكب الأرض و أنتجت حوالى  مليار نوع انقرض معظمهم ( 99%) و المتبقى الأن حوالى عشرة ملايين نوع .كل منهم يقف على قمة السلم التطورى مثلنا تماما فلأن التطور ليس بعملية غائية فالهومو سابينز ( أو الانسان الحديث ) ليس بكائن متميز بل هو نوع أخر من بين مئات ملايين الأنواع التى ظهرت ،و لا يتجاوز عمره على ظهر كوكب الأرض المائتى ألف عام بينما الميكروبات مثلا حكمت الأرض لمدة تتجاوز المليارى عام .


 الديناصورات حكمت الأرض لأكثر من مائة و ستين مليون عاما قبل أن تنقرض بفعل نيزك من الفضاء الخارجى مع عدد أخر من الكائنات ،و الغرض الأساسى من الحياة طبقا لعلم البيولوجى  هو تمرير جيناتك ، قصص الحب الملتهبة و الكم الهائل من المشاعر التى يتمتع بها الانسان كالغيرة أو التعاطف و متعة ممارسة الحب مع العشيق كلها تصب فى خانة واحدة ( ضمان تمرير الجينات ) .


 حتى الوعى   الانسانى الذى  لم يصل الى  ما يشبه صورته الحالية  الا فقط  قبل حوالى  40 ألف عام و الذى مكننا من زيادة قدرتنا على الاختراع و التواصل  ليس باعجاز خارق للعادة، بل ماهو الا ظاهرة بيولوجية أخرى كالهضم أو التنفس  كما يخبرنا علماء النيروبيولوجى، و لربما لا يختلف  كثيرا فى الأساسيات عن كيفية عمل  الحواسيب الالكترونية كما يتكهن علماء الذكاء الاصناعى ،بمعنى اخر ما نطلق عليه كلمة الروح  بكل ما تحمله من قيم أخلاقية أو ابداع فنى أو تساؤل فلسفى أو ذكاء معرفى أقرب الى  الروبوتات منها الى أى شىء أخر .


و لكن انتظر القصة لا تنتهى هنا فعلم الكيمياء لديه ما يضيفه .الحياة برمتها ما هى الا ماكينة  كيميائية أو بمعنى أخر أنت و كل الكائنات الحية عبارة عن قمامة كيميائية أخرى لا تختلف عن الموجودات الأخرى  ، أكثر تعقيدا بالتأكيد و لكنها ليست كيمياء مختلفة على الاطلاق .


ثم يختتم علم الفيزياء الحكاية باعتباره أكثر العلوم أساسية ليخبرنا باننا ما الا مجرد تجميعات أخرى من الذرات ( الكترونات و بروتونات و نيترونات ) أو حسب فيزياء الجسيمات الأولية الحديثة  (كواركات و لبتونات ) و بهذا عزيزى القارىء أنت لا تختلف فعليا عن الكرسى الذى تجلس عليه  الأن و بعد موتك سيكون التماثل بينكما كاملا .




* للوهلة الأولى يبدو لأى عاقل أن الصورة التى يقدمها لنا العلم الحديث تدعم بكل تأكيد العدمية الوجودية ، و أن السؤال المنطقى الوحيد الذى يجب على كل منا طرحه على نفسه و على الأخرين  هو : لماذا لا ننتحر جميعا اذن ؟


اجابتى أنا شخصيا – و لدهشة البعض  اجابة الأغلبية من العلماء أنفسهم  _  ستكون  مخالفة تماما و لأسباب يقدمها لنا تاريخ العلم نفسه . 






دعونا نعود الى علم الأحياء التطورى لأنه العلم الذى يخبرنا بالسياق التاريخى الذى تطورنا فيه و كيف أصبحنا نحن هكذا ، أدمغتنا تطورت لتساعد أجسامنا على ايجاد طريقها عبر العالم الذى هو على المستوى الذى تعمل به تلك الاجساد .نحن تطورنا فيما يطلق عليه العلماء ( العالم المتوسط ) حيث تتحرك أشياء متوسطة الحجم ( نمور ، قردة ، أشباه بشر ، فراشات ...الخ ) بسرعات متوسطة و هذا هو نوعية العالم الذى يمكننا التعامل معه بسهولة و فهمه فيما يطلق عليه ( الحس المشترك ) .


 ما تراه حولك فى العالم هو ليس العالم الحقيقى بدون ماكياج بل هو مجرد نموذج للعالم الحقيقى منظم و منسق بمعلوماتنا التى نكتسبها عن طريق الحواس و مبنى بشكل مفيد للتعامل مع العالم الحقيقى ، تطورنا فى هذا العالم المتوسط ( و الذى سيكون بالنسبة لنا أدغال افريقيا طوال الستة ملايين عاما الماضية منذ انفصالنا عن الشمبانزى ) زودنا بامكانيات ضعيفة للتعامل مع أى أحداث ذات لا احتمالية عالية و لكن فى الفضاء الكونى الواسع أو الأزمنة الجيولوجية الطويلة ماقد يبدو مستحيل فى العالم المتوسط هذا سيصبح حتميا ، أسلافنا تعاملوا مع مشاكل من قبيل ( كيف يمكننى أن أرصد تحركات هذا النمر لأحافظ على بقائى ) و هذه هى نوعية المشاكل التى تطور الدماغ ليساعد على حلها .


لهذا مثلا تبدو الفيزياء الحديثة مثلا لغز عصى على الفهم بالنسبة لأناس كثيرين حتى العلماء أنفسهم ، نحن لا نستطيع فهم- الا بصعوبة بالغة و فقط عبر نافذة الرياضيات- كيفية التعامل مع الأشياء الكبيرة جدا (الماكروسكوبية ) و الأشياء الصغيرة جدا ( الميكروسكوبية ) أو عندما تتحرك الأشياء بسرعات قريبة لسرعة الضوء ، العلم يفتح لنا هذه النافذة الضيقة للفهم الى أبواب أوسع تمكننا من معرفة الطبيعة بل و التحكم بها .


 نحن لدينا نظرية النسبية العامة لأينشتاين و التى  تصف الكون على المستوى الماكروسكوبى  بمجراته و ثقوبه السوداء ...الخ ، و لدينا فيزياء الكوانتم التى تصف لنا العالم الميكروسكوبى بكل غرائبه بدقة بالغة تصل الى دقة قياس عرض شعرة من شعر الانسان كما يقول (ريتشارد فينمان ) ، و هناك فرق من العلماء تعمل على مستوى أكثر حتى أساسية من هاتين النظريتين اللتين تمثلان ذروة الانجاز العلمى البشرى ك (نظريات الجاذبية الكمية -  الاوتار الفائقة ) و فرق أخرى تضع نماذج رياضية تصف ما الذى حدث قبل الانفجار العظيم .


العلم ممثلا فى الطريقة التجريبية  و التفكير العقلانى حررنا الى حد ما من ميراث تطورى أعاق قدرة أسلافنا على فهم الطبيعة ،و بالتالى كانت انجازات العلم الحديث مدهشة  كما فى الصعود الى القمر أو قياس عمر الكون الحالى أو التحكم فى قوى الطبيعة ( القنبلة النووية ) أو الطب الغربى و زيادة متوسط عمر الفرد .


هذه الامكانيات لم تتح لأسلافنا الذين عاشوا حياة  قصيرة قاسية تسكن فيها التنانين المحيطات و تتلبس فيها الشياطين الأجساد ،و كانت وجبة طعام بالنسبة لهم متعة باهظة الثمن .


تأمل فى الأمر  أنت أيها القمامة الكيميائية -التى لا تعدو أن تكون سوى ذرات تجمعت كيفما اتفق لتكونك -،على الرغم من أن  وعيك ماهو الا ناتج هامشى جانبى لعملية تطورية غير موجهة استغرقت مليارات الأعوام ،بينما  الطبيعة نفسها ليست واعية أو غائية. 
فأنت بكل تأكيد  جزء  لا يتجزء من هذه الملحمة  الكونية الأزلية .


عندما بدأ الكون الحالى بالانفجار العظيم قبل 13.7 مليار عام و حتى الأن فان صداه مازال يتردد فى أنفاسك *، فأنت تحتوى بداخلك ذرات النجوم الأولى  التى انفجرت قبل مليارات السنين لتكون العناصر الثقيلة التى مهدت لنشوء الحياة على كوكب الأرض ، أنت مدين بكل تأكيد  لتلك النيازك التى اصطدمت بالأرض فى وقت مبكر من تاريخ نشؤها لينتج عن اصدام احداها  القمر ، تلك المركبات الكيميائية الأولية التى بدأت بها الحياة على كوكب الأرض ، الميكروبات و الكائنات البدائية التى قامت بتحويل غازات الأرض البدائية السامة الى الغلاف الجوى الذى نعرفه الأن ، ذلك الحيوان الشبيه بالدودة الذى وجد قبل 500 مليون عام ، تلك السمكة التى غادرت المحيطات قبل 300 مليون عام الى البر لتبدأ فصلا جديد من التاريخ البيولوجى ، ذلك الكائن الثدييى الضئيل الحجم الذى عاصر  الديناصورات و تمكن من البقاء حيا  ، القردة التى عاشت على الأشجار ،و أشباه البشر  الذين هبطوا على الأرض فى أحراش أفريقيا قبل ملايين السنين  ليعيشوا حياة الخطر و الصيد و القنص ، هؤلاء الذين ساقتهم الظروف المناخية الى أفاق جديدة و لينتشروا عبر قارات العالم المختلفة، هؤلاء الذين اخترعوا النار و قاموا بصناعة الأدوات الحجرية ، هؤلاء الذين بدأوا الحضارة و الزراعة قبل عشرة ألاف عام ،و  أولئك الذين ساعدوا على حفظ التراث البشرى باختراع الكتابة و عشرات الألاف من الأشخاص الذين ساعدوا على ازدهار الحضارة و زيادة المعارف البشرية باسهاماتهم العلمية و الثقافية  .


أنت مدين لكل هؤلاء سواء كانوا نجوما او ميكروبات أو أسماك أو كائنات ثديية ضئيلة أو قردة أو أشباه بشر أو بشر عاشوا حيواتهم كلها لا يعرفون سوى مهنتى الجمع و القنص ، ليست هناك فرصة لوجودك الأن  لو كان أحد أسلافك تخاذل قبل مليون عام و سمح لذلك النمر بأن يفترسه .


لو كان للعلم أن يعطينا درسا فهو كم نحن محظوظون لنكون هنا الأن ، على مدار الأربعة مليار عاما الماضية  –أى مئات الملايين من   الاجيال –كان على أسلافك ان يبقوا احياء و أن تنتقل جيناتهم بطريقة معينة  غاية فى الدقة حتى يكون لك وجود حاليا .


نحن  لا نتمتع فقط  بنعمة الوجود احياء بل و الوعى الكافى لأن نفهم و نقدر هذه الحياة و التاريخ الطويل وراءها ،و الأهم القدرة على تحسينها الى حد ما و قد شاهدنا كيف ساعدنا التفكير العلمى على ابداع نظريات علمية (الكوانتم و النسبية العامة ) تصف لنا الواقع بشكل أكثر دقة مما تعجز عنه حواسنا البسيطة أو يفشل حسنا المشترك فى تخيله .
 نحن  لسنا مدينين فقط لكل هؤلاء بل نحتويهم  بداخلنا  حرفيا : ذرات تكونت فى اللحظات الاولى من عمر الكون  و عناصر تم صنعها داخل النجوم و ميكروبات و أسماك و ثدييات و قردة و أشباه بشر ....الخ  ، نحن -القمامة الكيميائية التى ترقص و تغنى و تبدع و تخترع و تستكشف الكون على كوكب معزول فى غياهب الكون الشاسع-  فعليا نحتوى تاريخ الكون بداخلنا ،و هناك حياة واحدة فقط  نمتلكها لنعرف أكثر عن أنفسنا و عن الكون و اذا ساعدنا الحظ فلربما نضيف أثر صغير الى هذا التاريخ قبل رحيلنا .انها تجربة فريدة  جدا و أنت عزيزى القارىء جزء منها.




* لم يكن هناك صدى للانفجار العظيم لأنه لم يكن انفجار بالمعنى المفهوم ، كما أن عدد كبير من علماء الكونيات اليوم يتشككون فى الفرضية القائلة بأنه كان البداية .لكنى لم أستطع مقاومة استخدام هذا التعبير الشاعرى .

عباقرة و عظماء : الحلقة الأولى - ريتشارد فاينمان




يمكننى أن أتعايش مع الشك و عدم اليقين و عدم المعرفة ، أعتقد أن التعايش مع عدم المعرفة أكثر تشويقا و أفضل من الاعتقاد فى  اجابات  خاطئة .لدى اجابات تقريبية و معتقدات تتسم بالاحتمالية و درجات مختلفة من اليقين حول أشياء متعددة. و لكنى لست متأكدا بشكل تام  من أى شىء و فى بعض الحالات لا أعرف أى شىء على الاطلاق عن أشياء من قبيل : هل السؤال الخاص ب"لماذا نحن هنا " يحمل أى معنى على الاطلاق ،يمكننى التفكير بصدده  لمدة قصيرة و لكن اذا لم أستطع ايجاد  اجابة ، أتوجه بفكرى الى أى شىء أخر فأنا لست مضطرا لأن أمتلك اجابة يقينية .لا أشعر بالخوف من عدم معرفة الأشياء ، من الضياع فى كون غامض لا يحمل أى هدف أو غاية - و هذه هى حقيقته  فعلا كما يمكننى أن أخمن - هذا لا يخيفنى البتة .


ريتشارد فاينمان ،  (متعة معرفة الأشياء)




الله ماهو الا  كلمة تم اختراعها لتفسير الأشياء الغامضة ، فهو يتم استخدامه دائما لتفسير الأشياء التى لا تفهمها .الأن عندما تكتشف فى النهاية كيفية عمل ظاهرة ما ،فأنت تمتلك بعض القوانين التى أخذتها من نطاق الاله ، و لم تعد بحاجة اليه لتفسير هذه الظاهرة ، و لكنك تحتاجه بالنسبة الى الألغاز الاخرى .و من ثم فأنت تتركه يخلق الكون لأننا لم نكتشف أصل الكون بعد، أنت بحاجة اليه لفهم الأشياء التى تعتقد بأن القوانين العلمية لن تفسرها مثل الوعى الانسانى أو لماذا تحيا لفترة معينة من الزمن -الحياة و الموت - و أشياء من هذا القبيل .دائما مايتم ربط الآلهة بالأشياء التى لا تفهمها، و لذلك فأنا لا أعتقد بأن قوانين الطبيعة يمكن اعتبارها شبيهة بالاله لأننا قد عرفنا آلية عملها و لم تعد غامضة على الاطلاق .


ريتشارد فاينمان ، مقتبس من كتاب ( الأوتار الفائقة -نظرية كل شىء) /تحرير بول ديفيز و جوليان براون 




تمهيد 


دائما ما نجد كتب التاريخ ممتلئة بقصص حول الملوك  و الأمراء و الحروب و المذابح و المؤامرات و القادة العسكريين و الأديان و الأنبياء و الآلهة  ....الخ ، و كأن أهم ما قدمه الجنس البشرى طيلة فترة وجوده على هذا الكوكب هو ملوكه و أمرائه و أنبيائه ،بينما الحقيقة أن أعظم رحلة قام بها الجنس البشرى هى الرحلة التى بدأت قبل 2600 عام على أقل تقدير  لكشف أسرار الطبيعة و استغلالها لصالحه . فتأثير( جيمس واط )-مخترع المحرك البخارى المكثف الذى ساهم فى الثورة الصناعية و التى غيرت ملامح المجتمعات البشرية الى الأبد - مثلا فى التاريخ البشرى لا يقل عن تأثير نابليون بونابرت ، بل  فى الحقيقة تأثيره  أعظم و أطول استمرارا  ، لكن كما هى العادة أصوات البنادق و المدافع  الصاخبة هى التى تجذب  الجماهير و ليست لغة العلماء الباردة و الجافة .
هذا الموضوع  لربما يكون بداية محاولة لاخراج العلماء من معاملهم فى اطار أكثر انسانية و أكثر قربا من المفاهيم الاعتيادية لأمثالنا من الفانين الذين لم ينالوا درجة الدكتوراة من هارفارد فى العلوم الطبيعية ، و لن تتاح لهم الفرصة غالبا لفهم المعادلات الرياضية  المعقدة التى يتم بواسطتها وصف الطبيعة فى الفيزياء الحديثة ، و بغض النظر عن امكانية النجاح من عدمه فالمحاولة ضرورية لأن الرحلة شيقة حقا ،و لأن هدفنا النهائى ليس أقل من فك طلاسم الوجود و الوصول الى أفضل فهم ممكن للعالم الذى نعيش فيه .


مقدمة 


فى استفتاء تم اجراؤه  بين مائة من أهم علماء الفيزياء المعاصرين  على مستوى جامعات عالمية متعددة فى نهاية الألفية الماضية  ، كان السؤال حول تقييمهم لأعظم علماء الفيزياء على مدار  التاريخ  البشرى بأكمله . و كانت النتيجة لمن احتلوا المراتب العشرة الأولى بالترتيب التالى :


1- ألبرت أينشتاين /     ألمانى-سويسرى-أمريكى 


2-  إسحق نيوتن /           بريطانى 


3- جيمس كلارك ماكسويل / بريطانى 


4- نيلز بور /                دانماركى 


5- فيرنر هايزنبرغ /          ألمانى 


6- جاليليو جاليلى /          ايطالى 


7- ريتشارد فاينمان /          أمريكى 


8- بول ديراك /              بريطانى 


9- إرفين شرودنغر/           نمساوى 


10- إرنست رذرفورد /       نيوزيلندى -بريطانى 


http://news.bbc.co.uk/2/hi/541840.stm




*من المتفق عليه  أن علم الفيزياء هو أكثر العلوم أساسية و هو بذلك حجر الأساس لكل العلوم الأخرى و معارفنا عن العالم الواقعى ،و لذلك فلا غرابة أن أعظم العقول التى أنجبتها البشرية أتجهت الى دراسته -اسم أينشتاين مثلا أصبح يستخدم بمعنى لفظ عبقرى ، و أينشتاين نفسه  تم اختياره بواسطة مجلة التايم الأمريكية كأهم شخصية فى القرن  العشرين متفوقا على كل الشخصيات السياسية و الاقتصادية و العسكرية الأخرى - ، حياة هؤلاء العلماء لم تكن جافة مملة  كما قد يتصور البعض تنحصر بين جدران معاملهم الأربعة مع وقت ضئيل جدا يستمتعون به تحت الشمس ، بل على العكس   تماما معظمهم  عاش حياة حافلة مثيرة بجانب طبعا اسهاماتهم العلمية الجليلة الشأن و التى وسعت من معارف الجنس البشرى بشكل كبير .


و أفضل أن أبدأ بشخصية فريدة من نوعها فى تلك القائمة لأعظم علماء الفيزياء فى التاريخ ، و هو العالم الأمريكى العظيم ريتشارد فاينمان .






بطاقته الشخصية


ولد (ريتشارد فيلبس فاينمان) فى الحادى عشر من مايو 1918 فى حى كوينز بمدينة نيويورك ،الولايات المتحدة الأمريكية لأبوين يهوديين من أصول بولندية و روسية و لكنهما لم يكونا متدينين .  و ريتشارد وصف نفسه بأنه أصبح ملحدا صريحا منذ بدايات شبابه .تأثر ريتشارد كثيرا بوالده الذى كان يشجعه دائما على التفكير و البحث و تحدى المعتقدات التقليدية و التفكير الجامد، بينما ورث عن والدته روح الدعابة التى تحلى بها طيلة حياته .له أخت وحيدة (جوان فينمان ) و التى أصبحت هى الاخرى عالمة متميزة  و تخصصت فى الفيزياء الفلكية حيث كانت لها اسهامات مهمة .




سجله التعليمى


بينما كان (فاينمان ) يقضى عامه الأخير  بالثانوية العامة الأمريكية اشترك فى بطولة منافسات الرياضيات التى تقيمها جامعة نيويورك و فاز بها ،و كان الفارق بينه و بين أقرب منافسيه كبيرا لدرجة أدهشت المحكمين .بعد ذلك تقدم بطلب التحاق الى جامعة كولومبيا  لكن تم رفضه بسبب أصوله اليهودية (فى ذلك الوقت كان هناك عدد محدد من المقاعد للطلبة أصحاب الأصول اليهودية ) ،فالتحق بمعهد ماساتشوستش للتكنولوجيا (MIT) حيث حصل على شهادته الجامعية ،و من ثم أكمل دراساته العليا فى جامعة برينستون حيث حصل على شهادة الدكتوراة الخاصة به عام 1942 -و هو لم يتجاوز ال 23 من عمره بعد - تحت اشراف العالم الكبير (جون ويلر ) ، و كانت أطروحته للدكتوراة عبارة عن تطوير مقاربة جديدة فى ميكانيكا الكوانتم باستخدام (مبدأ القدر الأدنى من الفعل ) حيث استبدل النموذج الموجى فى معادلات (جيمس ماكسويل ) التى تصف القوة الكهرومغناطيسية بنموذج يقوم على تفاعل الجسيمات ،و هو ما كان يعتبر مقدمة لاسهاماته العلمية القادمة فى فيزياء الكوانتم .


يقول (جيمس جليك ) فى كتاب (عبقرى: حياة و علم ريتشارد فاينمان )   " هذا كان فاينمان بالقرب من ذروة امكاناته ،فى عمر الثالثة و العشرين لم يكن هناك أى فيزيائى على ظهر الأرض يستطيع أن يصل الى  درجة تحكمه بالمقومات الأصلية للفيزياء النظرية ،فهى لم تكن مجرد موهبة رياضية -على الرغم من أنه كان واضحا ان الآلة الرياضية التى نتجت عن تعاون فاينمان و ويلر كانت أكبر كثيرا من قدرات ويلر - فاينمان بدا و كأنه يمتلك راحة مخيفة مع طبيعة المادة التى تكمن خلف المعادلات .قلة فقط من العلماء هم من امتلكوا مثل هذه الموهبة  كألبرت أينشتاين فى عمر قريب من عمره ، أو الفيزيائى السوفيتى ليف لاندو  "




مشروع مانهاتن




الصورة : ريتشارد فينمان (فى اليسار) مع روبرت اوبنهايمر ( فى اليمين )



فى جامعة برنستون ، شجع الفيزيائى (روبرت ويلسون ) فاينمان على الاشتراك  فى مشروع مانهاتن - مشروع انتاج القنبلة النووية أثناء الحرب العالمية الثانية و الذى كان تحت اشراف العالم الفذ (روبرت أوبنهايمر )    ،و صرح فاينمان لاحقا بأن دافعه للاشتراك فى مشروع مانهاتن كان احساسه بضرورة انتاج  الولايات المتحدة للقنبلة الذرية قبل نجاح ألمانيا النازية فى ذلك . و هكذا وجد فاينمان الشاب ذو الثلاثة و عشرين عاما مشتركا فى أخطر مشروع علمى فى التاريخ .و كان له اسهامات مهمة فى المشروع لا مجال لتفصيلها  لصعوبتها التقنية .و كان فاينمان حاضرا فى اختبار ترينتى -التجربة الاولى للقنبلة الذرية التى جرت فى السادس عشر من يوليو عام 1945 فى صحراء نيومكسيكو الأمريكية -

بالعودة الى  (لوس ألاموس ) حيث كان المقر الرئيسى السرى لمشروع مانهاتن بين الأعوام من 1943 الى 1945 ، يقول  فاينمان بأنه كثيرا ما كان يشعر بالملل فالمكان كان معزولا تماما بسبب الطبيعة الخطرة و فائقة السرية  للمشروع ،و لم يكن هناك أى شىء يمكن للمرء فعله أثناء وقت فراغه على الاطلاق . لذلك فكانت تسليته المفضلة هى فك شفرات الأقفال السرية للخزائن التى كان يتم حفظ بها ورق الأبحاث المهمة ،و فى احدى المرات ترك ورقة بها الشفرة السرية لاحدى الخزائن فوقها مما دفع زميله (فريدريك هوفمان ) بالتشكك حول احتمالية وجود جاسوس فى المقر تمكن من التوصل الى شفرة احدى الخزائن .بينما كانت هوايته الأخرى و التى استمرت معه طيلة حياته هى العزف على الدرامز  و ربما بعض الرقص و الغناء على سبيل تقضية الوقت- كان فاينمان  العالم الفذ مولعا بالفنون  فمن هواياته الاخرى كان الرسم أيضا  - .

                                                       الصورة :    فاينمان و هوايته المفضلة 

و هناك حاز بشرف اجراء نقاشات متعددة مع العالم العظيم (نيلز بور ) ، بالاضافة الى صداقته مع مدير المشروع (روبرت اوبنهايمر ) و الذى حاول بعد انتهاء الحرب أن يجذبه للعمل معه فى جامعة كاليفورنيا-بيركلى  و لكنه لم يوفق فى مسعاه .

بعد الحرب العالمية الثانية 


اتجه فاينمان الى جامعة كورنيل حيث قام بتدريس الفيزياء من العام 1945 الى العام 1950قبل أن يتجه الى معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا حيث قضى بقية سجله الوظيفى هناك.

فى معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا
 

أنتج فاينمان أهم اسهاماته العلمية هناك و أبرزها :

* نظرية الديناميكا الكهربائية الكمية  و التى نال عنها جائزة نوبل فى الفيزياء عام 1965 مشاركة مع كل من جوليان شوينغر و سين-إيتيرو توموناكا و قد عمل فاينمان على هذه النظريةمن أيام عمله فى جامعة كورنيل 
و فيها تمكن فاينمان من تقديم طريقة جديدة للتفكير فى ميكانيكا الكم /الكوانتم


التواريخ المتعددة (حاصل جمع التواريخ )




* تحدى فاينمان الفرض الكلاسيكى القائل بأن لكل جسيم تاريخ واحد معين ،و طرح بدلا من ذلك أن الجسيمات تتحرك من موضع لأخر خلال أى مسار ممكن فى الزمكان ،و ربط فاينمان كل مسار برقمين أحدهما لحجم أو سعة الموجة و الأخر لطورها -اذا ما كانت عند القمة أو القاع - و تحسب احتمالات أن ينتقل جسيم من  (أ) الى  (ب) من تجميع الموجات المصاحبة لأى مسار ممكن يمر خلال (أ) و (ب).
بالطبع قد يبدو هذا غريبا بالنسبة لنا ففى حياتنا اليومية العادية نرى أن الأجسام تتبع مسارا واحدا من مصدرها حتى وجهتها النهائية و لكن هذا لا يختلف مع نظرية التواريخ المتعددة لدى فاينمان فبالنسبة للأجسام الكبيرة (الماكروسكوبية ) و التى تصفها قوانين نيوتن الكلاسيكية للحركة سنجد أنه عند تجميع اسهامات كل المسارات المحتملة فانها كلها يلغى الواحد منها الأخر فيما عدا مسار واحد ، فليس هناك الا مسار واحد من ذلك العدد اللانهائى من المسارات هو الذى له أهميته .

*هذه الفكرة حلت مشكلة كبيرة فى فيزياء الكوانتم -و هى أهم نظرية علمية تم تطويرها على الاطلاق على مدار التاريخ البشرى و تم التأكد من تنبؤاتها التجريبية بدقة تصل الى جزء من المليار -  فمبدأ عدم اليقين لهايزنبرغ و هو لب الفيزياء الحديثة يخبرنا بأن الكون على أكثر المستويات أساسية ذو طبيعة احتمالية و يشبه (ستيفن هوكينغ ) هنا الكون بأنه كازينو قمار هائل يدحرج فيه النرد أو تدور فيه عجلات الروليت فى كل فرصة ، و هذا العنصر العشوائى فى ميكانيكا الكم هو ما اعترض عليه أينشتاين بعبارته الشهيرة (الله لا يلعب النرد ) -رغم ان اينشتاين لم يكن مؤمنا بأى اله شخصى الا ان عقله لم يستطع تقبل كيفية ادخال ميكانيكا الكوانتم عنصر العشوائية و الاحتمالية كمبدأ أساسى أصيل فى الطبيعة - و لأن الكون كبير جدا كما هو الحال الأن فان هناك عدد كبير جدا لدحرجات النرد و يصبح للنتيجة متوسط يمكن للمرء أن يتنبأ به و هذا هو السبب فى أن قوانين الفيزياء الكلاسيكية تصلح للمنظومات الكبيرة و لكن تفشل عند التنبؤ بسلوك الجسيمات الميكروسكوبية  و من ضمنها الكون كما كان بعد الانفجار العظيم مباشرة فهنا لا يوجد سوى عدد قليل من رميات النرد و يصبح مبدأ عدم اليقين مهما جدا ،و بما أن دحرجة النرد تتواصل بلا انقطاع فى الكون فالكون لا يكون له تاريخ واحد ،بدلا ذلك يجب أن يكون للكون أى تاريخ ممكن و كل تاريخ له احتماله الخاص به .و هذا يفتح المجال للحديث حول  نظريات الأكوان المتوازية و العوالم المتعددة .

هذه الفكرة التى تبدو كأنها سيناريو لفيلم خيال علمى أصبحت مقبولة الأن كحقيقة علمية و الفضل يرجع فى ذلك لفاينمان الذى صاغها فى صورة نظرية علمية (مخططات فاينمان )

مخططات فاينمان تعتبر اليوم أساسية بالنسبة للنظريات الفيزيائية التى  تطمح الى توحيد نظريات الفيزياء (الاوتار الفائقة -النظرية ام ) ، بل و بنى (ستيفن هوكينغ ) و (جيم هارتل ) فرض (ظرف اللاحدية ) بناءا على توليف النسبية العامة لأينشتاين مع  فكرة التواريخ المتعددة لفاينمان .


*عمل فاينمان كان مهما أيضا فى التوصل الى النظرية الحالية للكواركات (احد الجسيمات الاولية التى تكون البروتونات و النيوترونات) و تعد فتحا مهما فى فيزياء الجسيمات الأولية ، بالاضافة الى العديد من البحوث و الاسهامات الأخرى التى لن يتسع المجال هنا لذكرها .


علم النانوتكنولوجى 



(هناك الكثير من الغرف فى القاع ) كان هذا هو عنوان المحاضرة  التاريخية التى ألقاها فاينمان فى احدى ليالى ديسمبر الباردة فى حفل أقامته الجمعية الأمريكية للفيزياء لتكريمه  عام 1959،و هناك أعطى فاينمان مثالا للتفكير الثورى الخلاق الذى لا تلجمه أى أفكار تقليدية ،حيث أعطى تصورا عن امكانية تغيير خواص أى مادة  عن طريق اعادة ترتيب ذراتها ، حيث أن هناك علاقة مباشرة تربط بين بنية تركيب المادة و خواصها ،سواء كانت خواصا كيميائية أو فيزيائية أو ميكانيكية فكل هذا يعتمد على البنية الداخلية للمادة و أماكن وجود الذرات بها و عدد الذرات بشبكتها البلورية .
ما عرضه فاينمان فى هذه المحاضرة اعتبره الكثيرون خيال محض فى هذا الوقت لصعوبة تحريك ذرات أى مادة و عدم توافر الوسيلة التى تسمح بذلك ، و لكن هذه المحاضرة كانت بمثابة الباب الذى فتحه فاينمان على مصراعيه أمام  ثورة النانوتكنولوجى و التى يعتبرها الكثيرون أهم ثورة تكنولوجية و علمية من أيام  ثورة نيوتن فى الفيزياء و الثورة الصناعية ، فهى ستفتح المجال أمام البشر الى عوالم أخرى من التقدم و الازدهار .


الشارح الأعظم 



مواهب فاينمان لم تقتصر فقط على كونه عالم عظيم أو قدرته التى لا ينافسه فيها أحد من حيث التفكير بشكل غير تقليدى و خلاق و مبتكر،أو موهبته فى الرياضيات التى أذهلت الكثيرين ،بل انه اكتسب سمعة لا تضاهى فى قدرته على توصيل المعلومة مهما بلغت درجة صعوبتها الى طلابه، فهو كان يعتبر أن من الواجب الأخلاقى على أى عالم أن يجعل الموضوع الذى يود شرحه قابلا للفهم بواسطة أى شخص حتى و لو لم يتمتع الا بمعرفة بسيطة أو متوسطة .
محاضرات فاينمان فى الفيزياء و التى قام بتدريسها على مدار عامين 1961-1963 للطلبة فى معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا و التى شملت الفيزياء الكلاسيكية و فيزياء الكوانتمو الكهرومغناطيسية و الرياضيات التى يتم استخدامها فى فروع الفيزياء المختلفة أصبحت تراثا كلاسيكيا بالنسبة لكل من يريد يتعلم الفيزياء بشكل يخلو من التعقيدات  و على يد أحد أعظم الفيزياء على الاطلاق  .بيع من هذه المحاضرات  أكثر من مليون و نصف نسخة بالانجليزية و مليون نسخة بالروسية و نصف مليون بلغات أخرى .

العلم الحقيقى و الزائف




كأى عالم حقيقى لم يحب فاينمان كل هذه الافتراضات و التخمينات  التى تمتلىء بها العلوم الاجتماعية (و خاصة علم النفس بالنسبة له)  و التى تدعى العلمية بينما هى كأى علم زائف ليس لها أى برهان يشهد لها  بالصحة ،و فى حفل تخرج طلبة معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا عام 1974 ألقى فاينمان خطابا انتقد بشدة كثرة العلوم الزائفة و التى تتخفى فى شكل العلم الحقيقى قبل أن يخبر الطلبة "أول مبدأ يجب عليكم تعلمه هو  عدم خداع النفس - خاصة و أنك أسهل شخص يمكنك خداعه - ، لذلك يجب عليكم أن تكونوا  حذرين بخصوص ذلك ، و بعد أن تتوقف عن خداع نفسك ، سيكون من السهل بالنسبة لك ألا تخدع الاخرين"

كارثة المكوك الفضائي تشالنجر


لعب فاينمان دورا مهما فى التحقيق فى كارثة المكوك الفضائى تشالنجر حيث كان عضوا فى اللجنة الرئاسية التى تم تشكيلها بأمر من الرئيس (رونالد ريجان ) للتحقيق فى الواقعة الكارثية ،و قام فاينمان باجراء مقابلات عدة مع مدراء وكالة الفضاء الأمريكية ناسا ،و كان استنتاجه أن تقديرات خبراء ناسا كانت غير واقعية و حذر فى تقريره الذى قدمه بأن " اذا أردت ان تمتلك  تكنولوجيا ناجحة يجب عليك أن تبنى حساباتك بناء على معطيات الواقع  و ليس العلاقات العامة، فالطبيعة لا يمكن خداعها"

آراء حول الدين و السياسة و الفلسفة 


فاينمان كان ملحدا منذ بدايات شبابه رغم أصوله اليهودية ،و كان لديه تقدير عميق للأسس التى تم بناء الحضارة الغربية عليها كالتعايش السلمى بين المعتقدات المختلفة و الفصل بين الدين و الدولة ،و روح عصر التنوير التى تهتم دائما بالغد المشرق لا بالماضى السحيق ،و التى ترى أن من واجبها التساؤل حول المجهول و محاولة معرفته و ليس الاكتفاء بالاجابات الدوغمائية السخيفة التى تقدمها الأديان أو الأيديولوجيات الشمولية .

 و فكره السياسى  كان أقرب الى الليبرالية الكلاسيكية منها الى أى معتقد سياسى  أخر ، فقد آمن باهمية تحديد صلاحيات الحكومات و عدم تدخلها الا بالشكل الذى يحفظ مصالح المجتمع ، و كان قويا فى رفضه تدخل الدولة فى كيفية عمل المؤسسات العلمية و التعليمية على وجه الخصوص .

بينما سببت وجهة نظره  حول الفلسفة  غضب الكثير من الأكاديميين المتخصصين بالفلسفة منه، فقد كان دائم السخرية من الفلاسفة الذين يجلسون على الأرائك المريحة ليكتبوا تصوراتهم  حول الوجود و الوعى و الكون ...الخ-لم يكن يفوت فرصة تقريبا فى محاضراته للسخرية من هذا اللون من الفلسفة - ، فالعلم التجريبى بالنسبة له هو الفيصل و هو الطريقة الوحيدة لمعرفة قوانين الطبيعة و ماهية الأشياء و ليس التفلسف الذى لا يستند الى أى أسس واقعية ،و هو فى ذلك يحذو حذو رذرفورد و كثير من العلماء غيره ،فمشكلة الفلسفة فى رأيه هى الكم الهائل من الأفكار الساذجة و الخاطئة التى تعج بها امهات الكتب الفلسفية و التى لا تعدو سوى  أن تكون مجرد ألعاب لفظية فى رأيه .

وفاته

أصيب فاينمان بنوعين نادرين من  الأورام السرطانية  فى نهاية حياته ،و فى يوم 15 فبراير 1988 توفى فاينمان عن عمر يناهز التاسعة و الستين ،و كانت أخر كلماته المسجلة لأحد أصدقائه لا تخلو من روح الدعابة التى امتاز بها طيلة حياته تعليقا على اصابته بنوعين نادرين من السرطان "أكره أن أموت مرتين ، ان هذا لأمر ممل حقا "

و فى عام 2005 أصدرت هيئة البريد الأمريكية طابع تذكارى تخليدا لريتشارد فاينمان ، مع ثلاثة علماء أخرين ،و لا غرابة فهو بلا جدال أعظم عالم امريكى .

هذه قصة رجل استثنائى جمع بين روح الدعابة التى لا مثيل لها  و القدرات العقلية الخارقة ، استمتع بعزف الدرامز و الرقص كما استمتع بتبسيط  الفيزياء الحديثة المعقدة . اسهاماته العلمية بخصوص  الديناميكا الكهربائية الكمية  و تأسيسه لعلم النانوتكنولوجى بالاضافة الى  اشتراكه فى صنع القنبلة الذرية  . دافع عن الحرية بكل قوة حيث أنها الضمان الوحيد لازدهار الحضارة و تقدم العلم  ،عاش حياته بلا آلهة يعبدها و لكن عطاؤه العلمى للبشرية فاق كل ما تمت كتابته فى الكتب المقدسة الموحى بها من عند الآلهة المزعومة  .ريتشارد فاينمان فلترقد بسلام.





ما بعد الإنسانية Transhumanism - الحلقة الأولى





" إلى أين تمضي يا جلجامش؟  الحياة التي تبحث عنها لن تجدها.  فالآلهة لما خلقت البشر، جعلت الموت لهم نصيباً،  وحبست في أيديها الحياة ". 
(ملحمة جلجامش ), اللوح العاشر: العمود الثالث (كسرة الرمز Me)


"إن كانت هناك آلهة ، فكيف  أطيق ألا أكون إلها ؟"
(عدوّ المسيح) ، فريدريك نيتشه 


دعونا بداية نفتح كتب الفيزياء  لنعود الى الوراء 13.7 مليار عام و نبحر فى الزمن حتى نصل  الى مابعد لحظة  الانفجار العظيم  بقليل حيث تخبرنا نظريات الفيزياء الكمومية الحديثة أن (الزمان-المكان space-time ) كان عبارة عن كمات متقطعة و بصورة أساسية شظايا معلومات ، ثم لننتقل  الى بضعة مئات الألاف من السنين بعدها سنجد أن الذرات بدأت فى التكون عندما انحبست الالكترونات فى مدارات حول نواة مكونة من بروتونات و نيترونات ،لتولد الكيمياء بعد بضعة ملايين من السنين عندما اتحدت الذرات مع بعضها البعض لتكون مركبات مستقرة نسبيا تدعى بالجزيئات .و من كل العناصر أثبت الكربون أنه الأكثر تنوعا  فهو قادر على تكوين روابط فى أربع اتجاهات (مقارنة بواحد الى ثلاثة بالنسبة لمعظم العناصر ) مما أعطى الفرصة لظهور الجزيئات ثلاثية الأبعاد و معقدة التركيب الغنية بالمعلومات .


ثم لنقفز مليارات السنين الى الأمام و بالتحديد من حوالى 3.8 مليار عام لنجد أن المركبات الكربونية تصبح أكثر تعقيدا لتتكون آليات قادرة على النسخ الذاتى من مجموعات معقدة من الجزيئات ،و بذلك بدأت الحياة على كوكب الأرض .فى النهاية الأنظمة البيولوجية طورت آلية رقمية دقيقة  (الحمض النووى DNA) لتتمكن من تخزين المعلومات التى تصف مجتمع أكبر من الجزيئات ،وليكون الحمض النووى و الآلة المساعدة له من كودونات و ريبوسومات المفتاح الرئيسى فى عملية تطور الحياة على كوكب الأرض بل و ليحتفظوا بسجل كامل لهذه الحقبة .


المسرحية الكونية تدخل الأن مرحلة جديدة  فالتطور أنتج كائنات يمكنها تحديد المعلومات بواسطة أجهزة الحس الخاصة بها و لتخزن المعلومات التى تحصل عليها فى أدمغتها و أنظمتها العصبية و تلك المرحلة بدأت بقدرة الحيوانات البدائية على تمييز و تذكر بعض آليات و ظواهر الطبيعة المهمة لبقاءها أو التى تعرضت لها لفترة طويلة زمنيا (و هى بالمناسبة مازالت حتى الأن تشكل الأغلبية العظمى من تكوين و نشاط الدماغ البشرى) ، فى النهاية  تمكن  جنسنا البشرى من تطوير القدرة على خلق نماذج مجردة عقلية تماما عن العالم الذى نعيش فيه و نختبره كل يوم و التفكير  فى التطبيقات العقلية لهذه النماذج .فنحن نمتلك القدرة على اعادة تصميم العالم فى عقولنا و من ثم وضع تلك الأفكار فى حيز التنفيذ .




و بهذا تصل الدراما الى ذروتها فبواسطة اعمال التفكير العقلانى و المجرد تمكن الجنس البشرى من ابداع التكنولوجيا من العجلة الى الطباعة و بعد الثورة الصناعية و العلمية الحديثة تسارع معدل التقدم التقنى بشكل ملحوظ فاخترعنا  الكهرباء و الطائرة و السيارة و الراديو و التلفاز .....الخ ،و قد بدأنا بآليات بسيطة للغاية لنطورها الى ألات ميكانيكية معقدة يستطيع أفراد متخصصون فقط من الجنس البشرى التعامل معها ، و قد وصلنا لحد   أن التكنولوجيا الآن بواسطة أجهزة الاتصال و الحاسبات المتطورة تستطيع استشعار و تخزين و تقييم تفاصيل دقيقة جدا من المعلومات التى تحصل عليها ،فاذا تمت المقارنة بين  معدل تطور  التقدم البيولوجى  للذكاء و مثيله الخاص بالتطور التكنولوجى سنجد أن أكثر الثدييات تطورا تمكنت من اضافة 1 انش (2.54 سم ) مكعب  من مادة الدماغ كل مائة ألف عام  بينما تقريبا تتضاعف قدرة الحاسبات كل 18 شهر (قانون مور). بالتأكيد ليس حجم المخ أو سعة الحاسب الآلى هما المحدد الوحيد للذكاء و لكن بلا شك يمثلان عوامل مساعدة .


اذا نظرنا الأن مليار عام الى الوراء سنجد أنه لم يحدث الكثير حتى على مقياس المليون عام ،و لكن اذا نظرنا الى الوراء عشرين عاما فقط سنجد العديد من التغييرات الجذرية
(هل تتصور حياتك من غير التليفون المحمول و الانترنت مثلا ؟؟ هذا الاختراعان لم ينتشرا بشكل مكثف سوى فى حقبة التسعينات من القرن الماضى ، هل تتصور  أنه قبل العام 1994 لم يسمع أحد باختراع اسمه الايميل ؟)


تسارع التقدم التكنولوجى و العلمى الذى تعيشه البشرية الأن غير مسبوق على الاطلاق و قد حدثت تغييرات جذرية للطريقة التى نحيا بها بسببه ،و لكن من الغريب أنه طال كل شىء ماعدا الانسان ذاته فالطبيعة البشرية مازالت فى الجانب الأكبر منها  كما هى منذ 150.000 عام ،الجنس البشرى بشكل عام يحمل عيوب خطيرة جدا فى تكوينه الجسمانى و  آلياته العقلية فنحن حصيلة 3.8 مليار عام من التطور و هى عملية لم تكن موجهة بل كانت عمياء و بلا ارادة فوقية .


الجنس البشرى يحتاج ظروف خاصة جدا للبقاء فهو لا يستطيع مثلا المعيشة فى درجات حرارة مرتفعة جدا (أو منخفضة جدا) و لو افترضنا حدوث كارثة على كوكب الأرض يوما ما فهو لا يمتلك التقنية  ليستطيع الهرب الى كواكب أخرى و لو امتلكها فهو لا يستطيع الحياة على كواكب أخرى مختلفة فى غلافها الجوى و جاذبيتها  و غيرها من العوامل الواجبة لاستمرار الحياة البشرية ، بل ان حوالى 79 % من مساحة كوكبنا غير مسكونة على الاطلاق لأن الانسان لا يستطيع العيش فى المحيطات و البحار ( و أكثر من هذه النسبة ان أضفنا الصحارى و الأدغال ...الخ ) ، كل أفراد الجنس البشرى محتم عليهم توقف عملياتهم البيولوجية (الموت ) فى لحظة ما .نحن كلما ازدادت معرفتنا عن الكون تزايدت ثقتنا بأننا نعيش فى كون عدائى للغاية ،بأننا الاستثناء و ليس القاعدة ،بأننا نعيش على هامش الكون و لسنا محوره كما تزعم الأديان و الفلسفات الميتافيزيقية .




و هنا تظهر فلسفة (مابعد الانسانية ) لتخبرنا بأن الحل للمشاكل التى تواجه الجنس البشرى  بكل تأكيد  لن يكون باعتناق الأفكار الأسطورية عن أصل الكون و الدعاء لكائن خرافى يعيش فى السماء كما أقنعت الأديان أتباعها طوال ألاف السنين الماضية ،و لن تكون باعتناق أفكار علمانية مثالية أخرى لا تختلف كثيرا عن الأديان من حيث أنها لا تستند الى أى أسس علمية أو منطقية .و لكن الحل يتلخص تحديدا فى استخدام العلم و التكنولوجيا الحديثة لتطوير قدرات الانسان و رفعه الى مراتب الآلهة .


لعل تاريخ هذه الفلسفة يمكن تتبعه طوال تاريخ البشرية المدون فنجد مثلا جلجامش ملك أورك و رحلته بحثا عن الخلود فى الملحمة الشهيرة ،و أيضا فى القصص و الأساطير التى تتحدث عن اكسير الشباب حيث تبدو  تيمة محاربة  الموت و البحث عن الخلود  واضحة فيها الى أقصى حد.ثم نجد نيتشه أحد أعظم الفلاسفة و حلمه بالانسان السوبرمان لكن لم تتبلور هذه الفلسفة فعليا الا بعد داروين .






ان أهمية داروين لا تتمثل فقط فى أنه تمكن من  حل أحد أهم الألغاز التى واجهت الجنس البشرى و كشفت النقاب عن ماضيه ،بل أنه فتح الطريق الى المستقبل أمامنا فى نفس الوقت .فقبل داروين كان ينظر الى الخصائص الحالية للبشر  باعتبارها المرحلة النهائية لما يمكن أن يصله الجنس البشرى (على اعتبار أنه مخلوق على صورة الاله و أن الاله قد خلقه فى أحسن تقويم ) بينما بعد داروين أصبح من الممكن النظر الى البشر باعتبارهم مرحلة تطورية أخرى قد تفضى الى مراحل تطورية أرقى بمئات المرات من الجنس البشرى الحالى .




*يرمز عادة لمصطلح ما بعد الانسانية فى اللغة الانجليزية بالرمز +H كرمز للانسان المطور، و رغم أن أول استخدام للكلمة يرجع الى العام 1957 ،فالمعنى الحالى للكلمة هو نتاج الثمانينات من القرن الماضى عندما بدأ خبراء المستقبليات فى الولايات المتحدة فى تنظيم ما نما بعد ذلك ليصبح حركة ( ما بعد الانسانية ) .
الحركة باختصار هى حركة فكرية و ثقافية دولية تدعم استخدام العلم و التكنولوجيا لتطوير خصائص و قدرات الانسان العقلية و البدنية ،فهى تعتبر بعض نواحى الحياة البشرية كالاعاقة و المرض و الموت و الشيخوخة كأشياء غير ضرورية و غير مرغوب فيها ،فمؤيدو الحركة ينظرون الى التكنولوجيا الحديثة و بخاصة التكنولوجيا الحيوية و الهندسة الجينية و الذكاء الاصطناعى باعتبارها الأدوات التى ستمكنهم من تحقيق أهدافهم .


منظروا الحركة يتوقعون بأن البشر قد يتمكنوا فى المستقبل من تحويل أنفسهم الى كائنات حية ذات قدرات فائقة و خارقة للطبيعى لدرجة أنهم لن يعودوا بشرا بالمعنى المفهوم بل ( مابعد الانسان) .




تجدر هنا الاشارة الى ملحوظتين :


أولا معظم المنظرين لحركة (ما بعد الانسانية ) هم علماء غالبا و ليسوا سياسيين أو فلاسفة ، فكبار المنظرين لهذه الحركة هم مثلا مارفن مينسكى (أحد المؤسسين لمعمل الذكاء الاصطناعى فى معهد ماساشوستس للتكنولوجيا و هو أهم معاهد و كليات العالم على الاطلاق فيما يتعلق بالتكنولوجيا و العلوم، و لعله الخبير رقم واحد على مستوى العالم فيما يتعلق بالذكاء الاصطناعى  ) و هانز مورافيك (و هو الأخر متخصص بالذكاء الاصطناعى و الروبوتات ) و رايموند كورزويل ( مخترع شهير و متخصص بعلوم الذكاء الاصطناعى و علم المستقبليات ) 


و لعل سيكون من الغريب أن أذكر الاسم الرابع و لكنه رمز مهم جدا رغم أنه لم يقم باصدار كتب عن الحركة  كما فعل الثلاثة الأخرون و هو العالم العبقرى (جيمس واطسون ) مكتشف تركيب الحمض النووى DNA  مع زميله (فرانسيس كريك ) و مؤسس علم الجينات الفعلى و أحد الداعين لاعادة تصميم الجسد البشرى .
ففى كلمة شهيرة له  أمام مؤتمر UCLA عن علم الجينات و مستقبل الهندسة الوراثية رفض رفضا قاطعا أى تدخل حكومى أو تشريعى خلاف المعايير العلمية  فى مجال الهندسة الجينية بل و تمادى و هو المعروف بصراحته  و  لا يمتاز باللباقة السياسية political correctness  على الاطلاق ليقول أن الكلام عن حقوق الانسان و حقوق المرأة و حقوق الطفل و حقوق الحيوانات ....الخ سخف و هراء ،و أنه لا توجد قدسية أو حقوق مزعومة لحياة الانسان و أن النزعة الصوفية لوضع الانسان فى مكان أعلى من وضعه الطبيعى تليق بأفلام هوليوود و ليس بالعالم الحقيقى .






ثانيا تظل هذه الحركة -رغم أنها اقتصرت حتى الأن على التنظير الفكرى باصدار الكتب أو الأفلام الوثائقية و اجراء بعض المؤتمرات  النقاشية و لم تدخل حيز التنفيذ الفعلى لأننا لا نمتلك التكنولوجيا الملائمة بعد - محل جدل شديد و معارضة هائلة ،فبالطبع أى متدين على وجه الأرض لن يستطيع النظر الى مثل هذه الحركة الفكرية الا باعتبارها هرطقة لا حدود لها فهى تنافس الهه أو آلهته بشكل مباشر فى اختصاصات لطالما ظلت فى نطاق الألوهية فقط كتحقيق الخلود .....الخ  .


 و بالنسبة لليسار بمعظم أطيافه تظهر هذه الحركة و التى تعمل من خلال العلم و التكنولوجيا و ليس من خلال تغيير المؤسسات و القوى الاجتماعية كأنها ستعمل على زيادة الفوارق بين الطبقات و البشر بشكل لا مثيل له من قبل فبالطبع لن تتاح الفرصة الكافية الا لعدد محدود من البشر للتمتع بهذه التقنيات ان أثبتت نجاحا (الأثرياء و المتميزون ......الخ ) و هو مايضرب فكرة العدالة الاجتماعية و تذويب الفوارق الطبقية بين البشر و التى لطالما نادت بها حركات اليسار العالمى فى مقتل .


و حتى المنظرون للديمقراطية الليبرالية الغربية كفرانسيس فوكوياما مثلا (صاحب كتاب نهاية التاريخ و الانسان الأخير )  يرون  أنها اذا وضعت حيز التنفيذ ستكون نهاية الديمقراطية الليبرالية الغربية - لفوكوياما  كتاب كامل حول هذا الموضوع -و لذلك فانها أخطر فكرة عرفها الجنس البشرى على الاطلاق أو على حد تعبيره the world's most dangerous idea
و لكن على الجانب الأخر طبعا فان المؤيدون كرونالد بايلى يرون أنها الحركة التى تلخص أكثر تطلعات البشرية مثالية و ابداعا و شجاعة و جرأة .






* سأحاول فى  الحلقات القادمة تقديم كل المعلومات الممكنة عن هذه الحركة (تاريخها ، النظريات السياسية و الأخلاقية المتعلقة بها ،الشرح التفصيلى للتقنيات التى يأمل (مابعد الانسانيين ) فى استخدامها لتحقيق أهدافهم ك mind-uploading أو تحميل الدماغ و الوعى البشرى على حاسبات فائقة السعة و السرعة و  الهندسة الوراثية ..الخ ، الاعتراضات الموجهة اليها و الردود عليها ) و بما أن المصادر العربية منعدمة تقريبا فسيكون اعتمادى الأساسى على المصادر الانكليزية و لعل أهمها:


* كتاب The Singularity Is Near  by  Raymond Kurzweil


*ويكبيديا الانجليزية رائعة أيضا و الصفحة الخاصة بحركة مابعد الانسانية تشتمل الكثير من المعلومات و منسقة بشكل دقيق :
http://en.wikipedia.org/wiki/Transhumanism


*موقع الاتحاد العالمى ل(ما بعد الانسانيين ) أو الترانسهيومانستس(لو أردنا تعريب الكلمة  ) :
http://humanityplus.org/